بتمسكه بالبقاء بمدينته الإسكندرية أتاح محمد عفيفى الفرصة لشباب المدينة ومجتمعاتها وهيئاتها الثقافية والأدبية للاستفادة من وجوده كأستاذ رائد في الموسيقى الشرقية في مدينة يتركها الرواد دائما. فقد غادرها إلى القاهرة سلامة حجازي وكامل الخلعي وسيد درويش ومحمود الشريف، سعيا وراء فرص أفضل في العاصمة.
وبإنشائه العديد من الفرق الموسيقية والغنائية التي اشتهرت بجودة المادة الفنية وأصالتها ظهر كثيرون على مدرسته، تلك المدرسة التي ابتعد فيها عن فن اللهو وقدم عليه الفن الهادف والممتع فى نفس الوقت. وشاركت تلك الفرق في احتفالات الإسكندرية القومية والاجتماعية والفنية على مدى خمسين عاما متواصلة، منها فريق كورال سيد درويش الشهير بقصر ثقافة الحرية، مركز الإبداع لاحقا، وفرق جامعة الإسكندرية، والفرق الموسيقية الإقليمية، والشعبة الغنائية لفرقة الإسكندرية للفنون الشعبية.
ومن خلال ألحانه للإذاعة قدم الكثير من المواهب الجديدة التي دربها على الأداء الجيد، وساهم في إثراء أرشيف الإذاعة بالعديد من التسجيلات القيمة منها عدة أوبريتات شارك فيها عدد كبير من المطربين.
ومن خلال تليفزيون الإسكندرية قدم حلقات برنامجه الفني "أرابيسك" كما سجل عدة برامج عن أعمال كبار الفنانين خاصة سيد درويش وزكريا أحمد. وكان التليفزيون حريصا على استضافته لتقديم ما لديه من فنون فى مناسبات إحياء ذكرى الفنانين الكبار.
ولم تنسه الإسكندرية فقد جرى تكريمه فى مناسبات كثيرة، ونال التقدير من محافظة الإسكندرية وجامعتها، كما رشحته جهات عديدة لنيل الجوائز منها مديرية ثقافة الإسكندرية وهيئة الفنون والآداب وغيرها
|
محمد عفيفي - مسرح سيد درويش |
فرص وتضحيات
وقد ضحى محمد عفيفى بمشوار فني مرموق بالقاهرة أفي أكثر من مناسبة، ولاحت له فرصا عديدة بدأت عندما عرض عليه محمد عبد الوهاب العمل معه في القاهرة، احتراما لرغبة والده الذي رفض سفره، وضحى مرة أخرى عندما ألح عليه صديقه محمود الشريف بعد وفاة والده بسنوات في الذهاب معه إلى القاهرة، حتى لا يترك والدته بالإسكندرية بمفردها حيث لم ترد مغادرة المدينة، وضحى مرة ثالثة عندما توفيت والدته بعد ذلك بعشر سنوات، وكان متزوجا حديثا، تلبية لرغبة زوجته فقد كانت الأسرة عنده أهم من الشهرة والنجومية، ثم مرة رابعة عندما عرض عليه قيادة فرقة الموسيقى العربية بالقاهرة بعد وفاة قائدها عبد الحليم نويرة فقد رفض ترك الإسكندرية التي أحبها وصار من أعلامها. وكان يجد في بحرها وشواطئها الكثير من سحر الطبيعة الأخاذ، وفى جوها النقي المنتعش دائما أفضل صديق صيفا وشتاء، وفى معالمها الكثير من الذكريات والشجون التي لا يطيق فراقها.
فى أحد اللقاءات التليفزيونية قال الناقد الموسيقى عبد الفتاح البارودي عن الإسكندرية " سيد درويش نفسه لو بقي بالإسكندرية لما سمع عنه أحد"، وهذه حقيقة مع الأسف لكن فناننا لم يأبه بها وظل على إخلاصه ولم ييأس يوما من الفن ولم يعتزله، وإنما بقي يقدم ما استطاع في مدينته. وليت للإسكندرية نصيب كنصيب القاهرة من الفرص والأضواء ، لكن الحال كذلك في معظم بلاد الدنيا، والعواصم تستأثر بكل شئ.
بهذا يكون محمد عفيفى قد أمتع جمهور الفن الراقي على مدى سنوات طويلة تجاوزت السبعين عاما لم يتخل فيها عن مدينته وشعبها المحب للفن والمتذوق له، وظل على قيمه ورسالته في تكريس الأصالة ورفع الذوق العام.
مسرح زيزنيــا
شهدت أماكن كثيرة في تلك المدينة لقاء عفيفي بالناس والأصدقاء والفن والفنانين، فأول لقاء له بمحمد عبد الوهاب عام 1929 كان على مسرح زيزنيا، مسرح المدينة الأول عندما طلب منه الجمهور الغناء، وكان شابا صغيرا، في حضور عبد الوهاب الذي استمع إليه، وفي تلك الليلة تلقى دعوته للعمل معه في القاهرة، في نفس المكان الذي شهد التحول الكبير في حياة عبد الوهاب. فقد غنى في حضور أمير الشعراء أحمد شوقي على مسرح زيزنيا عام 1924، وكان شوقي قبلها بعشر سنوات قد استصدر أمرا من حكمدار القاهرة بمنع عبد الوهاب من الغناء في المسارح لصغر سنه، ويذكر عبد الوهاب تلك الواقعة بمرارة شديدة عندما يطلب شوقي لقاءه أثناء العرض. لكن شوقي يثني عليه هذه المرة ويشجعه بل ويتبنى بنفسه إعداده ليكون نجما مثقفا وليضعه في الصف الأول ويقدمه إلى صفوة المجتمع.
|
ميدان المنشية - الإسكندرية |
معهد الموسيقى العربية
مازال معهد الموسيقى العربية في الإسكندرية حيث درس المئات من عشاق الموسيقى بنفس موقعه القديم بشارع مسجد العطارين، وكان مدير المعهد ومؤسسه الفنان عابس جمجوم شخصية غير عادية. فبالإضافة إلى مهاراته كعازف قانون كان مثقفا ذا رؤية جعلته يضطلع بمهمة تأسيس المعهد وإدارته بكل دقة ونظام. وكان موهوبا في الخط العربي، وهناك مدونات بخطه يحتار فيه الإنسان ولا يكاد يصدق أن ما يرى ليس خط المطبعة. والأعجب أن هذه احتوت على تدوين موسيقي للنوتة والأشكال الموسيقية بدقة متناهية، تماما كالكتب المطبوعة. اختار عباس جمجوم الفنان محمد عفيفي لتدريس الموسيقى النظرية وآلة العود بالمعهد وجمعتهما صداقة فنية تعدت حدود المعهد، فكان إذا ظهر حان موعد إذاعة لحن لمحمد عفيفي يستضيفه جمجوم للاستماع إليه سويا في حديقة المنزل، ويجعل من هذه المناسبة احتفالا، وخاصة ألحانه للمطربة فتحية أحمد في أوائل الخمسينات. استمر محمد عفيفي في عمله بمعهد الموسيقى بعد وفاة عباس جمجوم حتى جاء وقت فقد فيه المعهد حسن الإدارة وقطعت عنه الإعانة الحكومية وظهر بعض المنتفعين الذين أرادوا تحويل المكان إلى وسيلة للاسترزاق والتكسب بإقامة الحفلات الخاصة وإحياء الأفراح، وأمام هذا الموقف ترك عفيفي المعهد نهائيا وكان قد أمضى به 20 عاما من 1944 إلى 1964. والآن بعد سبعين عاما في 2014 لا يزال المعهد في مكانه ولكنه فقد بريقه الأول، ونفضت وزارتي التعليم والثقافة أيديهما عنه وتحول إلى جمعية خيرية فقيرة، دون دعم من أي جهة رسمية أو شعبية. أما المكان نفسه فقد أهمل تماما ولم يعد يجذب الرواد.
الجامعة الشعبية
أثناء وجوده بمعهد الموسيقى كان عفيفي قد انتدب أستاذا للموسيقى فيما عرف وقتها بالجامعة الشعبية. وكانت تلك الجامعة أشبه بالجامعة المفتوحة الآن، تتيح التعلم لكل يريد في مجالات شتى منها الموسيقى. كانت الدراسة شبه مجانية ولا تمثل عبئا ماليا يذكر على الدارسين، وكانت مواعيد الدراسة في مقارها مسائية، مما أتاح للكثيرين الالتحاق بها دون تعارض مع أعمالهم أو دراساتهم الأخرى. ألغيت الجامعة الشعبية دون أسباب واضحة في الستينات، لكن المواد الثقافية منها انتقلت إلى هيئة جديدة هي قصور الثقافة. وامتد انتداب محمد عفيفي للهيئة الجديدة فتركز نشاطه في قصر ثقافة الحرية الكائن بطريق الحرية، شارع فؤاد سابقا، مركز الإبداع الآن.
|
قصر ثقافة الحرية - الإسكندرية - مركز الإبداع |
قصر ثقافة الحرية
كان قصر الحرية فيما مضى ناديا اجتماعيا أنشأه الأمير محمد علي، صاحب القصر الشهير بالقاهرة الذي يحمل اسمه. وكان القصر تحفة معمارية من الخارج والداخل، إلى حد أنه بعد رصد 5 ملايين جنيه لتجديده في التسعينات تجد الأبواب والنوافذ كما هي لم تستبدل من فرط جودتها. كان بالقصر عدة قاعات خصصت قاعة منها للندوات والاحتفالات، كما خصصت قاعة للتدريب الموسيقي شهدت مولد فريق كورال سيد درويش. وشهدت هاتين القاعتين أكبر نشاط موسيقي للقصر بدءا من 1967 وحتى 1990 حينما أغلق القصر للتجديد.
وإلى ذلك القصر جاءت وفود إعلامية من القاهرة للقاء محمد عفيفي لتسمع منه ولتسجل له بعض البرامج الإذاعية والتليفزيونية. وممن التقى به من الإعلاميين حسن حامد، حسن شمس، سميحة دحروج، سهير الأتربي، ومحمد أنور. ومن الصحفيين جاء عبد الفتاح البارودي وعبد الله أحمد عبد الله، ومن الموسيقيين سليمان جميل وعلي فراج ورتيبة الحفني. ومن الأدباء يوسف السباعي وزير الثقافة، وسعد الدين وهبة وكيل وزارة الثقافة، ومن المخرجين حسن عبد السلام. وشهد القصر نشاطا متباينا في فترات مختلفة على مدى ربع قرن من الزمان، وأنشط فتراته كانت أثناء إدارة محمود دياب، الكاتب المسرحي، ومحمد غنيم.
وكان زائر القصر في أي وقت يشعر بأنه خلية نحل، فهناك قاعة الأدب، وقاعة الموسيقى وقاعة الفنون التشكيلية وقاعة للمسرح، إلى آخره، وكلها تمتلئ بالرواد ومحبي الفنون من كل نوع.
|
مسرح سيد درويش - الإسكندرية |
مسرح سيد درويش
وفي الإسكندرية شهد مسرح سيد درويش، احتفاليات كبرى شارك فيها محمد عفيفي، أهمها أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد لسيد درويش، التي عرضت لأول مرة على نفس المسرح عام 1921 أثناء حياة سيد درويش. وقد أعيد تقديمهما من إخراج حسين جمعة، وتولى محمد عفيفي مهمة تحفيظ وتدريب فرق الأوبريت ومراجعة النوت الموسيقية، بحضور صديقه محمد البحر نجل سيد درويش. وشهد المسرح أيضا عروضا في مناسبات أخرى عديدة منها العيد القومي في 26 يوليو، وإحياء ذكرى الفنانين الراحلين، وقدمت عليه عروضا لكورال سيد درويش الذي قدم ألحانا لسيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عفيفي.
ويشعر الزائر لذلك المسرح بجو غاية في الفخامة والعناية، وقد بني عام 1921 على طراز مستوحى من تصميم دار أوبرا فيينا بالنمسا، صممه المهندس الفرنسي "جورج بارك" في مربع 4000 متر تقريبا بمدخل شارع فؤاد بالقرب من قصر الثقافة، ويسع 1000 مقعد. وكان المسرح يحمل اسم الأمير محمد علي أيضا الذي أشرف على بنائه، ثم أطلق عليه اسم سيد درويش عام 1962، وشعر أهل المدينة ومن وقتها بأن ذلك المبنى العريق وقد أصبح ينتمي إلى فنان الشعب أنه أقرب إليهم من أي وقت مضى، لكن المسرح ما زال يحمل الإسمين على واجهته، بالإضافة إلى إسم ثالث هو أوبرا الإسكندرية.
|
إذاعة وتليفزيون الإسكندرية |
إذاعة الإسكندرية
أنشئت إذاعة الإسكندرية عام 1954، في مبنى خاص بمنطقة باكوس، وزردت باستديو كبير للتسجيلات الموسيقية، وآخر أصغر للبرامج الأخرى. مع افتتاحها وجد الفنان محمد عفيفي بديلا لإذاعة القاهرة فقدم إليها ألحانه بانتظام بمعدل 10 ألحان سنويا في أغنيات وأوبريتات وبأصوات جديدة قدمها للإذاعة. وأرضى عفيفي بشكل خاص أن إذاعة القاهرة كانت تخصص ساعة أسبوعية إذاعة مختارات من إذاعة الإسكندرية كان له فيها نصيب منتظم. كان محمد عفيفي يلاقي تقديرا خاصا من محمد حسن الشجاعي مستشار إذاعة القاهرة ورئيس أوركسترا الإذاعة المصرية. وكان الشجاعي يحرص على أن تقديم ألحان محمد عفيفي في مختارات الإذاعة، وهندما تطلب إذاعة الإسكندرية تسجيلات من القاهرة كان الشجاعي يرد بنفس القول كل مرة "عندكم عفيفي".. وكان يتوسط أيضا بينه وبين إدارة إذاعة الإسكندرية إذا شب بينهما خلاف. وكان العمل مع الإذاعة لا يخلو من خلافات، وهي خلافات إدارية وليست فنية بأي حال. وقد حثت مثل هذه الخلافات أيضا نع إذاعة القاهرة قبل ذلك، وكان محمد عبد الوهاب هو من يتوسط في كل مرة لإنهاء الخلاف.
لكن خلافا كبيرا حدث بينه وبين مدير إذاعة الإسكندرية حافظ عبد الوهاب جعل محمد عفيفي يترك الإذاعة بطريقة درامية ويقاطعها أكثر من عشرين عاما. كان معروفا عن حافظ عبد الوهاب أنه دكتاتور صغير يتحكم في البرامج والأشخاص حسب مزاجه الشخصي، وكان لا يجد حرجا في إبداء رأي فني في لجنة الاستماع رغم عدم كونه موسيقيا، ويروي عن موظفي الإذاعة القدامى أنه لميرق له أحد المطربين الجدد ذات مرة رغم موافقة اللجنة على صوته، فكتب على قرار اللجنة التي يرأسها "يعتمد ويصفع على قفاه"! إلى ذلك الحد كان يستهتر حافظ عبد الوهاب بالقيم وبالناس. كما أن هناك ما يروى عنه لا مجال للحديث عنه هنا، ولكن ما يهمنا أنه اصطدم بمحمد عفيفي ذلك الفنان الجاد الهادئ، فكان الخلاف ليس فقط حول موضوع بذاته، بل بين شخصيتين متناقضتين تماما.
وقصة الخلاف أنه قد تم إسناد تلحين أوبريت لمحمد عفيفي به حوالي عشرة ألحان بعنوان "رحلة إلى العجمي" عام 1959، قصته تدور حول رحلة الصيادين في البحر. وبعد عمل شاق استغرق ثلاثة أشهر وتم التلحين والبروفات وتدريب المطربين وتسجيل الألحان وأصبح كل شيء جاهزا للإذاعة، فوجئ برفض الأوبريت. وعلم أن حافظ عبد الوهاب هو الذي قرر رفضه ولخلاف مع المؤلف. ذهب عفيفي إلى حافظ ليقابله في مكتبه ويعلن اعتراضه على ذلك الإجراء حيث أنه لا ذنب له فيه، لكن حافظ أصر على موقفه.
أمام إصرار حافظ لم تعد القصة من وجهة نظر عفيفي قصة أوبريت أو تسجيل، فقد اعتبر تصرف حافظ غير لائق ولا يمكن قبوله، وأن الأمر يتعلق أساسا بشخصية حافظ عبد الوهاب وأسلوبه، وأصدر حكمه في التو واللحظة، فأقسم ألا يتعامل مع الإذاعة طالما بقي فيها حافظ عبد الوهاب، قائلا له بالنص " والله ما انا داخلها طول ما انت فيها". حدث ذلك في أوائل عام 1960، وظل محمد عفيفي وفيا لقسمه 27 عاما لم يدخل فيها من باب الإذاعة.
وطوال تلك السنين كان يأتي إليه من يعرفون قدره لاستمالته وإقناعه بالعودة، منهم صابر مصطفي، الذي عين مديرا فيما بعد، وآخرين، لكن محمد عفيفي ظل على موقفه. في تلك الأثناء نشط عفيفي كثيرا خارج إذاعة الإسكندرية، خاصة من خلال وزارة الثقافة التي لم تقصر في تقديره وتكريمه واعتباره من الفنانين الرواد، بفضل ما كان يقدمه من تعريف بالتراث وتدريب للفرق والأفراد، وحصل على جوائز عديدة، وكان من الآثار الإيجابية لتركه الإذاعة الانتقال من الاستديو المغلق إلى العمل الجماهيري، فاتسعت دائرة معارفه ومحبيه
في عام 1987 جاء صابر مصطفى مرة أخرى إلى محمد عفيفي في قصر ثقافة الحرية، وكان كبير المذيعين، ليخبره أن حافظ عبد الوهاب قد ترك الخدمة، ولم يعد مديرا للإذاعة، ويدعوه للعودة لاستئناف نشاطه بها. وهذه المرة قبل محمد عفيفي دعوة صابر وبالفعل سجل أول لحن له بعد عودته في نفس العام. ولدى عودته أسندت إلى محمد عفيفي لجنة استماع الموهوبين الجدد في برنامج خاص بإشراف الإذاعي المخضرم جمال توكل، وكانت مكونة من جمال توكل، محمد عفيفي، محمد المصري، وأسامة عفيفي.
ومن خلال ذلك البرنامج الذي كان يقدمه صابر مصطفى اكتشف عفيفي مدى التدهور الثقافي الذي أصاب الشباب من الذين تقدموا إلى المسابقات. وبالتالي كان ينصحهم بالقراءة والاطلاع ودراسة الموسيقى والتدرب على الأداء، فكان يوجههم إلى قصر ثقافة الحرية لنيل ما يمكنهم من أداء أفضل في فرص قادمة.
من ضمن القصص الصادمة التي جاءت على ألسنة الشباب قال أحدهم سأقدم أغنية "زوروني كل سنة مرة" للمطربة فيروز، وعندما سئل من ملحن هذه الأغنية أجاب "الأخوان رحباني". صدمت اللجنة من هذه لإجابة القاسية في حق سيد درويش ملحن الأغنية الشهيرة، وكان يمكن اعتبارها خطأ شخصي، لكن متقدم آخر مثلا قال سأقدم أغنية "أنا كل ما اقول التوبة" للمطربة ماجدة الرومي، بينما هي لعبد الحليم حافظ.
وهكذا تبين أن الوسط الإعلامي قد اختلط فيه الحابل بالنابل بسبب عدم الاهتمام بتقديم المبدعين الأصليين للأعمال من ناحية، وبسبب تجاهل أسماء كبيرة مثل فيروز وماجدة الرومي لذكر أسماء أصحاب الأعمال التي يقدمونها أصلا بهدف استعلال شعبيتها ونجاحها المضمون. ربما أيامها لم يكن هناك إنترنت ولا معلومات متاحة بسهولة، لكن المتصفح للصفحات الكثيرة باسم فيروز على الإنترنت الآن في 2014 سيجد في عديد منها بالفعل اسم "الأخوين رحباني" في خانة الملحن بجوار أغنية "زوروني كل سنة مرة"!
تليفزيون الإسكندرية - القناة الخامسة
في عام 1990 تم افتتاح القناة الخامسة في مبنى أنشيء بجوار مبنى الإذاعة وداخل نفس الحرم. ولم تكن القناة الجديدة تنتج أعمالا فنية أو تملك ميزانية لذلك، لكن تواجد محمد عفيفي بالقرب من منها بعد عودته للإذاعة أتاح الفرصة للمعدين والمخرجين في التليفزيون للاستفادة من وجوده بشكل أو بآخر. وأثمر تعاونه مع التليفزيون عن عدة استضافات وحلقات فنية قدمها بنفسه في برنامج باسم :أرابيسك" من إخراج محمد السماحي، عن الفن والموسيقى الشرقية والتراث الموسيقي، بالإضافة إلى حلقات أخرى عن مشواره الفني وآرائه في القضايا الفنية، من إعداد بهاء قشطي وإخراج علي عبد الهادي، واستمر ذلك التعاون إلى عام 2003.
|
محمد عفيفي - مع فريق وعميد كلية الآداب - جامعة الإسكندرية |
المسابقات الجامعية
في الثمانينات تم اختيار محمد عفيفي لعضوية لجنة تحكيم الجامعات، وهي لجنة فنية تحكم في مسابقات الفرق الجامعية على مستوى الجمهورية، وكانت تشارك فيها في مهرجانات سنوية فرق موسيقية وفرق كورال ومواهب فردية، وكان هذا تقليدا سائدا كالمسابقات الرياضية، لكنه لم يعد له وجود الآن بعد اختفاء الأنشطة الاجتماعية والفنية من جامعات مصر ومدارسها تدريجيا في سنوات حكم مبارك الطويلة وما صحبها من إهمال جسيم في دعم الأنشطة الطلابية أدى إلى تدهور في السلوك الاجتماعي والحس الثقافي والفني، وتخرج الآلاف من الجامعات المصرية يحملون إما ثقافة الانعزال أو ثقافة الاستقطاب السياسي الذي ملأ فراغ الأنشطة الأخرى. أشرف محمد عفيفي أيضا على إعداد وتدريب فريق كورال كلية الآداب بجامعة الإسكندرية الذي نجح في الفوز بالجوائز الأولى في عدة مسابقات، وأسهم في أنشطة كلية الفنون الجميلة، وطلبت منه كليات أخرى المساهمة في إعداد فرقها لكنه نظر إلى أن تلك الفرق تتنافس في النهاية في المسابقات الجامعية فلم يشأ أن "ينافس نفسه"!
المنطقة الشمالية العسكرية
عمل محمد عفيفي مديرا للمراجعة والمهمات في وظيفة مدنية بمقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية، وظل في وظيفته إلى أن تقاعد في سن الستين. وأثناء عمله بالقوات المسلحة قام باستلام أول دبابة للجيش المصري، كما قام بنشاط فني، وكون فرقة موسيقية شرقية خاصة بالمنطقة، غير الموسيقات العسكرية، كانت تشارك في احتفالات القوات المسلحة في المناسبات المختلفة.
وترك محمد عفيفي الخدمة بالتقاعد عام 1973، ويقول بمناسبة تركه الوظيفة "لا ادري لماذا يحزن الناس لتركهم وظائفهم عند التقاعد! أنا أرى العكس .. وقت الإنسان يصبح عندئذ ملكه بالكامل، ويستطيع أن يقوم بالأعمال التي كان لا يستطيع أداءها وهو مقيد بالوظيفة". بالطبع لا ينطبق هذا الوصف على الجميع، لكنه كان لديه ما يمكن أن يشغله ويملأ وقته بدافع الهواية وحب العمل. وقد طبق محمد عفيفي ما قاله على نفسه بالحرف، وبعكس معظم الناس زاد نشاطه كثيرا بعد الستين، وإلى أن قارب التسعين عاما من العمر.
|
مقهى البورصة التجارية - الإسكندرية |
مقاهي الإسكندرية
اعتاد محمد عفيفي إنهاء يومه في أحد مقاهي الإسكندرية الكبرى، والتي كانت مثل مقهى الفيشاوي بالقاهرة، ملتقى الشعراء والفنانين، منها قهوة النيل بميدان المنشية، والتجارية على الكورنيش بين محطة الرمل والمنشية. ومن أصدقائه المنتظمين في مقاهي الإسكندرية كان الشاعر أحمد السمرة. كان عفيفي يجلس ليشرب القهوة ويدخن الشيشة وربما يركز ذهنه فيكتب شيئا أو يفكر في لحن جديد، هو يحمل في جيبه دائما قلما وورقة، ويسجل ما قد يخطر على باله من خواطر. ولم يكن أي شيء يمنعه عن عادته في ارتياد المقهى آخر اليوم، وحاولت زوجته كثيرا إثناءه عنها لكنها كانت عادة قديمة له. ويذكر عفيفي قصة استضافته لمحمد عبد الوهاب في بداية تعارفهما في أحد مقاهي الإسكندرية، فقد أخبره أنه يريد أن يسمعه شيئا وطلب منه مرافقته للمقهى. بعد قليل مر احد الباعة ينادي على "فول سوداني" .. لكن أي نداء .. إن الرجل يغني بالفعل .. دهش عبد الوهاب وأبدى إعجابه كثيرا بما سمعه من البائع، وبعد أشهر قليلة ظهرت أنغام البائع الشعبي في أحد ألحان عبد الوهاب الجديدة. كان البائع يقول أبياتا من شعر قديم للشاعر والبطل القومي عبد الله النديم
والله ان سعدني زماني لاسكنك يا مصر
وابني لك جنينة ومن جوه الجنينة قصر
واجيب منادي ينادي كل يوم العصر .. لذيذ وحمش!
أما أغنية عبد الوهاب بنفس اللحن فكانت كلماتها تقول "واديني شايف بعينه كل اللي شايفه بعينه" .. وكان عفيفي يذكر هذه القصة لمن حوله ليدلل على أن الموسيقى والألحان لا بد أن يكون لها أصل شعبي حتى تتمتع بالأصالة الحقيقية، وكان يذكر أيضا أن سيد درويش كان يأخذ نغمات ألحانه من أفواه الباعة والناس في الموالد والأفراح.