24 أبريل 2014

محمد عفيفي والإسكندرية - معالم وذكريات

بتمسكه بالبقاء بمدينته الإسكندرية أتاح محمد عفيفى الفرصة لشباب المدينة ومجتمعاتها وهيئاتها الثقافية والأدبية للاستفادة من وجوده كأستاذ رائد في الموسيقى الشرقية في مدينة يتركها الرواد دائما. فقد غادرها إلى القاهرة سلامة حجازي وكامل الخلعي وسيد درويش ومحمود الشريف، سعيا وراء فرص أفضل في العاصمة.
وبإنشائه العديد من الفرق الموسيقية والغنائية التي اشتهرت بجودة المادة الفنية وأصالتها ظهر كثيرون على مدرسته، تلك المدرسة التي ابتعد فيها عن فن اللهو وقدم عليه الفن الهادف والممتع فى نفس الوقت. وشاركت تلك الفرق في احتفالات الإسكندرية القومية والاجتماعية والفنية على مدى خمسين عاما متواصلة، منها فريق كورال سيد درويش الشهير بقصر ثقافة الحرية، مركز الإبداع لاحقا، وفرق جامعة الإسكندرية، والفرق الموسيقية الإقليمية، والشعبة الغنائية لفرقة الإسكندرية للفنون الشعبية.

ومن خلال ألحانه للإذاعة قدم الكثير من المواهب الجديدة التي دربها على الأداء الجيد، وساهم في إثراء أرشيف الإذاعة بالعديد من التسجيلات القيمة منها عدة أوبريتات شارك فيها عدد كبير من المطربين.
ومن خلال تليفزيون الإسكندرية قدم حلقات برنامجه الفني "أرابيسك" كما سجل عدة برامج عن أعمال كبار الفنانين خاصة سيد درويش وزكريا أحمد. وكان التليفزيون حريصا على استضافته لتقديم ما لديه من فنون فى مناسبات إحياء ذكرى الفنانين الكبار.
ولم تنسه الإسكندرية فقد جرى تكريمه فى مناسبات كثيرة، ونال التقدير من محافظة الإسكندرية وجامعتها، كما رشحته جهات عديدة لنيل الجوائز منها مديرية ثقافة الإسكندرية وهيئة الفنون والآداب وغيرها
محمد عفيفي - مسرح سيد درويش
فرص وتضحيات
وقد ضحى محمد عفيفى بمشوار فني مرموق بالقاهرة أفي أكثر من مناسبة، ولاحت له فرصا عديدة بدأت عندما عرض عليه محمد عبد الوهاب العمل معه في القاهرة، احتراما لرغبة والده الذي رفض سفره، وضحى مرة أخرى عندما ألح عليه صديقه محمود الشريف بعد وفاة والده بسنوات في الذهاب معه إلى القاهرة، حتى لا يترك والدته بالإسكندرية بمفردها حيث لم ترد مغادرة المدينة، وضحى مرة ثالثة عندما توفيت والدته بعد ذلك بعشر سنوات، وكان متزوجا حديثا، تلبية لرغبة زوجته فقد كانت الأسرة عنده أهم من الشهرة والنجومية، ثم مرة رابعة عندما عرض عليه قيادة فرقة الموسيقى العربية بالقاهرة بعد وفاة قائدها عبد الحليم نويرة فقد رفض ترك الإسكندرية التي أحبها وصار من أعلامها. وكان يجد في بحرها وشواطئها الكثير من سحر الطبيعة الأخاذ، وفى جوها النقي المنتعش دائما أفضل صديق صيفا وشتاء، وفى معالمها الكثير من الذكريات والشجون التي لا يطيق فراقها.

فى أحد اللقاءات التليفزيونية قال الناقد الموسيقى عبد الفتاح البارودي عن الإسكندرية " سيد درويش نفسه لو بقي بالإسكندرية لما سمع عنه أحد"، وهذه حقيقة مع الأسف لكن فناننا لم يأبه بها وظل على إخلاصه ولم ييأس يوما من الفن ولم يعتزله، وإنما بقي يقدم ما استطاع في مدينته. وليت للإسكندرية نصيب كنصيب القاهرة من الفرص والأضواء ، لكن الحال كذلك في معظم بلاد الدنيا، والعواصم تستأثر بكل شئ.
بهذا يكون محمد عفيفى قد أمتع جمهور الفن الراقي على مدى سنوات طويلة تجاوزت السبعين عاما لم يتخل فيها عن مدينته وشعبها المحب للفن والمتذوق له، وظل على قيمه ورسالته في تكريس الأصالة ورفع الذوق العام.

مسرح زيزنيــا
شهدت أماكن كثيرة في تلك المدينة لقاء عفيفي بالناس والأصدقاء والفن والفنانين، فأول لقاء له بمحمد عبد الوهاب عام 1929 كان على مسرح زيزنيا، مسرح المدينة الأول عندما طلب منه الجمهور الغناء، وكان شابا صغيرا، في حضور عبد الوهاب الذي استمع إليه، وفي تلك الليلة تلقى دعوته للعمل معه في القاهرة، في نفس المكان الذي شهد التحول الكبير في حياة عبد الوهاب. فقد غنى في حضور أمير الشعراء أحمد شوقي على مسرح زيزنيا عام 1924، وكان شوقي قبلها بعشر سنوات قد استصدر أمرا من حكمدار القاهرة بمنع عبد الوهاب من الغناء في المسارح لصغر سنه، ويذكر عبد الوهاب تلك الواقعة بمرارة شديدة عندما يطلب شوقي لقاءه أثناء العرض. لكن شوقي يثني عليه هذه المرة ويشجعه بل ويتبنى بنفسه إعداده ليكون نجما مثقفا وليضعه في الصف الأول ويقدمه إلى صفوة المجتمع.
ميدان المنشية - الإسكندرية
معهد الموسيقى العربية
مازال معهد الموسيقى العربية في الإسكندرية حيث درس المئات من عشاق الموسيقى بنفس موقعه القديم بشارع مسجد العطارين، وكان مدير المعهد ومؤسسه الفنان عابس جمجوم شخصية غير عادية. فبالإضافة إلى مهاراته كعازف قانون كان مثقفا ذا رؤية جعلته يضطلع بمهمة تأسيس المعهد وإدارته بكل دقة ونظام. وكان موهوبا في الخط العربي، وهناك مدونات بخطه يحتار فيه الإنسان ولا يكاد يصدق أن ما يرى ليس خط المطبعة. والأعجب أن هذه احتوت على تدوين موسيقي للنوتة والأشكال الموسيقية بدقة متناهية، تماما كالكتب المطبوعة. اختار عباس جمجوم الفنان محمد عفيفي لتدريس الموسيقى النظرية وآلة العود بالمعهد وجمعتهما صداقة فنية تعدت حدود المعهد، فكان إذا ظهر حان موعد إذاعة لحن لمحمد عفيفي يستضيفه جمجوم للاستماع إليه سويا في حديقة المنزل، ويجعل من هذه المناسبة احتفالا، وخاصة ألحانه للمطربة فتحية أحمد في أوائل الخمسينات. استمر محمد عفيفي في عمله بمعهد الموسيقى بعد وفاة عباس جمجوم حتى جاء وقت فقد فيه المعهد حسن الإدارة وقطعت عنه الإعانة الحكومية وظهر بعض المنتفعين الذين أرادوا تحويل المكان إلى وسيلة للاسترزاق والتكسب بإقامة الحفلات الخاصة وإحياء الأفراح، وأمام هذا الموقف ترك عفيفي المعهد نهائيا وكان قد أمضى به 20 عاما من 1944 إلى 1964. والآن بعد سبعين عاما في 2014 لا يزال المعهد في مكانه ولكنه فقد بريقه الأول، ونفضت وزارتي التعليم والثقافة أيديهما عنه وتحول إلى جمعية خيرية فقيرة، دون دعم من أي جهة رسمية أو شعبية. أما المكان نفسه فقد أهمل تماما ولم يعد يجذب الرواد.

الجامعة الشعبية
أثناء وجوده بمعهد الموسيقى كان عفيفي قد انتدب أستاذا للموسيقى فيما عرف وقتها بالجامعة الشعبية. وكانت تلك الجامعة أشبه بالجامعة المفتوحة الآن، تتيح التعلم لكل يريد في مجالات شتى منها الموسيقى. كانت الدراسة شبه مجانية ولا تمثل عبئا ماليا يذكر على الدارسين، وكانت مواعيد الدراسة في مقارها مسائية، مما أتاح للكثيرين الالتحاق بها دون تعارض مع أعمالهم أو دراساتهم الأخرى. ألغيت الجامعة الشعبية دون أسباب واضحة في الستينات، لكن المواد الثقافية منها انتقلت إلى هيئة جديدة هي قصور الثقافة. وامتد انتداب محمد عفيفي للهيئة الجديدة فتركز نشاطه في قصر ثقافة الحرية الكائن بطريق الحرية، شارع فؤاد سابقا، مركز الإبداع الآن.
قصر ثقافة الحرية - الإسكندرية - مركز الإبداع
قصر ثقافة الحرية
كان قصر الحرية فيما مضى ناديا اجتماعيا أنشأه الأمير محمد علي، صاحب القصر الشهير بالقاهرة الذي يحمل اسمه. وكان القصر تحفة معمارية من الخارج والداخل، إلى حد أنه بعد رصد 5 ملايين جنيه لتجديده في التسعينات تجد الأبواب والنوافذ كما هي لم تستبدل من فرط جودتها. كان بالقصر عدة قاعات خصصت قاعة منها للندوات والاحتفالات، كما خصصت قاعة للتدريب الموسيقي شهدت مولد فريق كورال سيد درويش. وشهدت هاتين القاعتين أكبر نشاط موسيقي للقصر بدءا من 1967 وحتى 1990 حينما أغلق القصر للتجديد.
وإلى ذلك القصر جاءت وفود إعلامية من القاهرة للقاء محمد عفيفي لتسمع منه ولتسجل له بعض البرامج الإذاعية والتليفزيونية. وممن التقى به من الإعلاميين حسن حامد، حسن شمس، سميحة دحروج، سهير الأتربي، ومحمد أنور. ومن الصحفيين جاء عبد الفتاح البارودي وعبد الله أحمد عبد الله، ومن الموسيقيين سليمان جميل وعلي فراج ورتيبة الحفني. ومن الأدباء يوسف السباعي وزير الثقافة، وسعد الدين وهبة وكيل وزارة الثقافة، ومن المخرجين حسن عبد السلام. وشهد القصر نشاطا متباينا في فترات مختلفة على مدى ربع قرن من الزمان، وأنشط فتراته كانت أثناء إدارة محمود دياب، الكاتب المسرحي، ومحمد غنيم.
وكان زائر القصر في أي وقت يشعر بأنه خلية نحل، فهناك قاعة الأدب، وقاعة الموسيقى وقاعة الفنون التشكيلية وقاعة للمسرح، إلى آخره، وكلها تمتلئ بالرواد ومحبي الفنون من كل نوع.
مسرح سيد درويش - الإسكندرية
مسرح سيد درويش
وفي الإسكندرية شهد مسرح سيد درويش، احتفاليات كبرى شارك فيها محمد عفيفي، أهمها أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد لسيد درويش، التي عرضت لأول مرة على نفس المسرح عام 1921 أثناء حياة سيد درويش. وقد أعيد تقديمهما من إخراج حسين جمعة، وتولى محمد عفيفي مهمة تحفيظ وتدريب فرق الأوبريت ومراجعة النوت الموسيقية، بحضور صديقه محمد البحر نجل سيد درويش. وشهد المسرح أيضا عروضا في مناسبات أخرى عديدة منها العيد القومي في 26 يوليو، وإحياء ذكرى الفنانين الراحلين، وقدمت عليه عروضا لكورال سيد درويش الذي قدم ألحانا لسيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عفيفي.
ويشعر الزائر لذلك المسرح بجو غاية في الفخامة والعناية، وقد بني عام 1921 على طراز مستوحى من تصميم دار أوبرا فيينا بالنمسا، صممه المهندس الفرنسي "جورج بارك" في مربع 4000 متر تقريبا بمدخل شارع فؤاد بالقرب من قصر الثقافة، ويسع 1000 مقعد. وكان المسرح يحمل اسم الأمير محمد علي أيضا الذي أشرف على بنائه، ثم أطلق عليه اسم سيد درويش عام 1962، وشعر أهل المدينة ومن وقتها بأن ذلك المبنى العريق وقد أصبح ينتمي إلى فنان الشعب أنه أقرب إليهم من أي وقت مضى، لكن المسرح ما زال يحمل الإسمين على واجهته، بالإضافة إلى إسم ثالث هو أوبرا الإسكندرية.
إذاعة وتليفزيون الإسكندرية
إذاعة الإسكندرية
أنشئت إذاعة الإسكندرية عام 1954، في مبنى خاص بمنطقة باكوس، وزردت باستديو كبير للتسجيلات الموسيقية، وآخر أصغر للبرامج الأخرى. مع افتتاحها وجد الفنان محمد عفيفي بديلا لإذاعة القاهرة فقدم إليها ألحانه بانتظام بمعدل 10 ألحان سنويا في أغنيات وأوبريتات وبأصوات جديدة قدمها للإذاعة. وأرضى عفيفي بشكل خاص أن إذاعة القاهرة كانت تخصص ساعة أسبوعية إذاعة مختارات من إذاعة الإسكندرية كان له فيها نصيب منتظم. كان محمد عفيفي يلاقي تقديرا خاصا من محمد حسن الشجاعي مستشار إذاعة القاهرة ورئيس أوركسترا الإذاعة المصرية. وكان الشجاعي يحرص على أن تقديم ألحان محمد عفيفي في مختارات الإذاعة، وهندما تطلب إذاعة الإسكندرية تسجيلات من القاهرة كان الشجاعي يرد بنفس القول كل مرة "عندكم عفيفي".. وكان يتوسط أيضا بينه وبين إدارة إذاعة الإسكندرية إذا شب بينهما خلاف. وكان العمل مع الإذاعة لا يخلو من خلافات، وهي خلافات إدارية وليست فنية بأي حال. وقد حثت مثل هذه الخلافات أيضا نع إذاعة القاهرة قبل ذلك، وكان محمد عبد الوهاب هو من يتوسط في كل مرة لإنهاء الخلاف.

لكن خلافا كبيرا حدث بينه وبين مدير إذاعة الإسكندرية حافظ عبد الوهاب جعل محمد عفيفي يترك الإذاعة بطريقة درامية ويقاطعها أكثر من عشرين عاما. كان معروفا عن حافظ عبد الوهاب أنه دكتاتور صغير يتحكم في البرامج والأشخاص حسب مزاجه الشخصي، وكان لا يجد حرجا في إبداء رأي فني في لجنة الاستماع رغم عدم كونه موسيقيا، ويروي عن موظفي الإذاعة القدامى أنه لميرق له أحد المطربين الجدد ذات مرة رغم موافقة اللجنة على صوته، فكتب على قرار اللجنة التي يرأسها "يعتمد ويصفع على قفاه"! إلى ذلك الحد كان يستهتر حافظ عبد الوهاب بالقيم وبالناس. كما أن هناك ما يروى عنه لا مجال للحديث عنه هنا، ولكن ما يهمنا أنه اصطدم بمحمد عفيفي ذلك الفنان الجاد الهادئ، فكان الخلاف ليس فقط حول موضوع بذاته، بل بين شخصيتين متناقضتين تماما. 

وقصة الخلاف أنه قد تم إسناد تلحين أوبريت لمحمد عفيفي به حوالي عشرة ألحان بعنوان "رحلة إلى العجمي" عام 1959، قصته تدور حول رحلة الصيادين في البحر. وبعد عمل شاق استغرق ثلاثة أشهر وتم التلحين والبروفات وتدريب المطربين وتسجيل الألحان وأصبح كل شيء جاهزا للإذاعة، فوجئ برفض الأوبريت. وعلم أن حافظ عبد الوهاب هو الذي قرر رفضه ولخلاف مع المؤلف. ذهب عفيفي إلى حافظ ليقابله في مكتبه ويعلن اعتراضه على ذلك الإجراء حيث أنه لا ذنب له فيه، لكن حافظ أصر على موقفه.
أمام إصرار حافظ لم تعد القصة من وجهة نظر عفيفي قصة أوبريت أو تسجيل، فقد اعتبر تصرف حافظ غير لائق ولا يمكن قبوله، وأن الأمر يتعلق أساسا بشخصية حافظ عبد الوهاب وأسلوبه، وأصدر حكمه في التو واللحظة، فأقسم ألا يتعامل مع الإذاعة طالما بقي فيها حافظ عبد الوهاب، قائلا له بالنص " والله ما انا داخلها طول ما انت فيها". حدث ذلك في أوائل عام 1960، وظل محمد عفيفي وفيا لقسمه 27 عاما لم يدخل فيها من باب الإذاعة. 
وطوال تلك السنين كان يأتي إليه من يعرفون قدره لاستمالته وإقناعه بالعودة، منهم صابر مصطفي، الذي عين مديرا فيما بعد، وآخرين، لكن محمد عفيفي ظل على موقفه. في تلك الأثناء نشط عفيفي كثيرا خارج إذاعة الإسكندرية، خاصة من خلال وزارة الثقافة التي لم تقصر في تقديره وتكريمه واعتباره من الفنانين الرواد، بفضل ما كان يقدمه من تعريف بالتراث وتدريب للفرق والأفراد، وحصل على جوائز عديدة، وكان من الآثار الإيجابية لتركه الإذاعة الانتقال من الاستديو المغلق إلى العمل الجماهيري، فاتسعت دائرة معارفه ومحبيه
في عام 1987 جاء صابر مصطفى مرة أخرى إلى محمد عفيفي في قصر ثقافة الحرية، وكان كبير المذيعين، ليخبره أن حافظ عبد الوهاب قد ترك الخدمة، ولم يعد مديرا للإذاعة، ويدعوه للعودة لاستئناف نشاطه بها. وهذه المرة قبل محمد عفيفي دعوة صابر وبالفعل سجل أول لحن له بعد عودته في نفس العام. ولدى عودته أسندت إلى محمد عفيفي لجنة استماع الموهوبين الجدد في برنامج خاص بإشراف الإذاعي المخضرم جمال توكل، وكانت مكونة من جمال توكل، محمد عفيفي، محمد المصري، وأسامة عفيفي. 
ومن خلال ذلك البرنامج الذي كان يقدمه صابر مصطفى اكتشف عفيفي مدى التدهور الثقافي الذي أصاب الشباب من الذين تقدموا إلى المسابقات. وبالتالي كان ينصحهم بالقراءة والاطلاع ودراسة الموسيقى والتدرب على الأداء، فكان يوجههم إلى قصر ثقافة الحرية لنيل ما يمكنهم من أداء أفضل في فرص قادمة. 
من ضمن القصص الصادمة التي جاءت على ألسنة الشباب قال أحدهم سأقدم أغنية "زوروني كل سنة مرة" للمطربة فيروز، وعندما سئل من ملحن هذه الأغنية أجاب "الأخوان رحباني". صدمت اللجنة من هذه لإجابة القاسية في حق سيد درويش ملحن الأغنية الشهيرة، وكان يمكن اعتبارها خطأ شخصي، لكن متقدم آخر مثلا قال سأقدم أغنية "أنا كل ما اقول التوبة" للمطربة ماجدة الرومي، بينما هي لعبد الحليم حافظ. 
وهكذا تبين أن الوسط الإعلامي قد اختلط فيه الحابل بالنابل بسبب عدم الاهتمام بتقديم المبدعين الأصليين للأعمال من ناحية، وبسبب تجاهل أسماء كبيرة مثل فيروز وماجدة الرومي لذكر أسماء أصحاب الأعمال التي يقدمونها أصلا بهدف استعلال شعبيتها ونجاحها المضمون. ربما أيامها لم يكن هناك إنترنت ولا معلومات متاحة بسهولة، لكن المتصفح للصفحات الكثيرة باسم فيروز على الإنترنت الآن في 2014 سيجد في عديد منها بالفعل اسم "الأخوين رحباني" في خانة الملحن بجوار أغنية "زوروني كل سنة مرة"!

تليفزيون الإسكندرية - القناة الخامسة
في عام 1990 تم افتتاح القناة الخامسة في مبنى أنشيء بجوار مبنى الإذاعة وداخل نفس الحرم. ولم تكن القناة الجديدة تنتج أعمالا فنية أو تملك ميزانية لذلك، لكن تواجد محمد عفيفي بالقرب من منها بعد عودته للإذاعة أتاح الفرصة للمعدين والمخرجين في التليفزيون للاستفادة من وجوده بشكل أو بآخر. وأثمر تعاونه مع التليفزيون عن عدة استضافات وحلقات فنية قدمها بنفسه في برنامج باسم :أرابيسك" من إخراج محمد السماحي، عن الفن والموسيقى الشرقية والتراث الموسيقي، بالإضافة إلى حلقات أخرى عن مشواره الفني وآرائه في القضايا الفنية، من إعداد بهاء قشطي وإخراج علي عبد الهادي، واستمر ذلك التعاون إلى عام 2003.
محمد عفيفي - مع فريق وعميد كلية الآداب - جامعة الإسكندرية
المسابقات الجامعية
في الثمانينات تم اختيار محمد عفيفي لعضوية لجنة تحكيم الجامعات، وهي لجنة فنية تحكم في مسابقات الفرق الجامعية على مستوى الجمهورية، وكانت تشارك فيها في مهرجانات سنوية فرق موسيقية وفرق كورال ومواهب فردية، وكان هذا تقليدا سائدا كالمسابقات الرياضية، لكنه لم يعد له وجود الآن بعد اختفاء الأنشطة الاجتماعية والفنية من جامعات مصر ومدارسها تدريجيا في سنوات حكم مبارك الطويلة وما صحبها من إهمال جسيم في دعم الأنشطة الطلابية أدى إلى تدهور في السلوك الاجتماعي والحس الثقافي والفني، وتخرج الآلاف من الجامعات المصرية يحملون إما ثقافة الانعزال أو ثقافة الاستقطاب السياسي الذي ملأ فراغ الأنشطة الأخرى. أشرف محمد عفيفي أيضا على إعداد وتدريب فريق كورال كلية الآداب بجامعة الإسكندرية الذي نجح في الفوز بالجوائز الأولى في عدة مسابقات، وأسهم في أنشطة كلية الفنون الجميلة، وطلبت منه كليات أخرى المساهمة في إعداد فرقها لكنه نظر إلى أن تلك الفرق تتنافس في النهاية في المسابقات الجامعية فلم يشأ أن "ينافس نفسه"!


المنطقة الشمالية العسكرية
عمل محمد عفيفي مديرا للمراجعة والمهمات في وظيفة مدنية بمقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية، وظل في وظيفته إلى أن تقاعد في سن الستين. وأثناء عمله بالقوات المسلحة قام باستلام أول دبابة للجيش المصري، كما قام بنشاط فني، وكون فرقة موسيقية شرقية خاصة بالمنطقة، غير الموسيقات العسكرية، كانت تشارك في احتفالات القوات المسلحة في المناسبات المختلفة.
وترك محمد عفيفي الخدمة بالتقاعد عام 1973، ويقول بمناسبة تركه الوظيفة "لا ادري لماذا يحزن الناس لتركهم وظائفهم عند التقاعد! أنا أرى العكس .. وقت الإنسان يصبح عندئذ ملكه بالكامل، ويستطيع أن يقوم بالأعمال التي كان لا يستطيع أداءها وهو مقيد بالوظيفة". بالطبع لا ينطبق هذا الوصف على الجميع، لكنه كان لديه ما يمكن أن يشغله ويملأ وقته بدافع الهواية وحب العمل. وقد طبق محمد عفيفي ما قاله على نفسه بالحرف، وبعكس معظم الناس زاد نشاطه كثيرا بعد الستين، وإلى أن قارب التسعين عاما من العمر. 
مقهى البورصة التجارية - الإسكندرية
مقاهي الإسكندرية
اعتاد محمد عفيفي إنهاء يومه في أحد مقاهي الإسكندرية الكبرى، والتي كانت مثل مقهى الفيشاوي بالقاهرة، ملتقى الشعراء والفنانين، منها قهوة النيل بميدان المنشية، والتجارية على الكورنيش بين محطة الرمل والمنشية. ومن أصدقائه المنتظمين في مقاهي الإسكندرية كان الشاعر أحمد السمرة. كان عفيفي يجلس ليشرب القهوة ويدخن الشيشة وربما يركز ذهنه فيكتب شيئا أو يفكر في لحن جديد، هو يحمل في جيبه دائما قلما وورقة، ويسجل ما قد يخطر على باله من خواطر. ولم يكن أي شيء يمنعه عن عادته في ارتياد المقهى آخر اليوم، وحاولت زوجته كثيرا إثناءه عنها لكنها كانت عادة قديمة له. ويذكر عفيفي قصة استضافته لمحمد عبد الوهاب في بداية تعارفهما في أحد مقاهي الإسكندرية، فقد أخبره أنه يريد أن يسمعه شيئا وطلب منه مرافقته للمقهى. بعد قليل مر احد الباعة ينادي على "فول سوداني" .. لكن أي نداء .. إن الرجل يغني بالفعل .. دهش عبد الوهاب وأبدى إعجابه كثيرا بما سمعه من البائع، وبعد أشهر قليلة ظهرت أنغام البائع الشعبي في أحد ألحان عبد الوهاب الجديدة. كان البائع يقول أبياتا من شعر قديم للشاعر والبطل القومي عبد الله النديم
والله ان سعدني زماني لاسكنك يا مصر
وابني لك جنينة ومن جوه الجنينة قصر
واجيب منادي ينادي كل يوم العصر .. لذيذ وحمش!
أما أغنية عبد الوهاب بنفس اللحن فكانت كلماتها تقول "واديني شايف بعينه كل اللي شايفه بعينه" .. وكان عفيفي يذكر هذه القصة لمن حوله ليدلل على أن الموسيقى والألحان لا بد أن يكون لها أصل شعبي حتى تتمتع بالأصالة الحقيقية، وكان يذكر أيضا أن سيد درويش كان يأخذ نغمات ألحانه من أفواه الباعة والناس في الموالد والأفراح.

22 أبريل 2014

محمد عفيفي - روح العطاء وأحكام القضاء

يعتبر كثير من أبناء الإسكندرية الفنان محمد عفيفى والدا لهم بجانب كونه أستاذا. فقد اجتذب بشخصيته الهادئة وابتسامته الجذابة وتمكنه الفائق من فنه وإخلاصه له أناسا من جميع الأعمار والفئات، منهم من كان حريصا على الاستماع إليه في ندواته وبروفاته دون الاشتراك الفعلي فى أى نشاط حبا في الالتفاف حوله والاستمتاع بما يقول، وكان حكاياته عن الفن وأهل الفن لا تنتهي، ومنهم من احترف الموسيقى وأصبحت له عملا مستقلا، ومنهم من لمع واشتهر.

ألحان لمحمد عفيفي نسبها آخرون لأنفسهم
وليس هناك فنان من الإسكندرية لا يعرف محمد عفيفى، فقد عرفه جميعهم الكبار منهم والصغار، ومن أعماله أنه قدم أكثر من أربعمائة لحن ونشيد لمدارس الإسكندرية تعزف في المناسبات المختلفة. وظل محمد عفيفي رجعا للكثيرين عند اضطلاعهم بالقيام بأعمالهم الخاصة. وكان له الفضل في نجاح فنانين بإشرافه على أعمال بعينها كانت سببا في شهرتهم، على سبيل المثـال أغنية "يا زايد في الحلاوة" التي ذاع صيتها في الإسكندرية كثيرا لجمال لحنها الذي ظهر فيه الطرب الأصيل من غناء عزت عوض الله، فقد وضع لحنها الأساسي محمد عفيفي، واستأذنه عزت عوض الله بحكم صداقتهما في أن يضع كلمات أخرى على اللحن، فوافقه عفيفي من باب المساعدة والمساندة، لكن عوض الله نسب اللحن لنفسه بحجة إدخال بعض التغييرات. وكذلك كان الحال في لحن "نوارة حارتنا". ومن الألحان المعروفة للمطرب كارم محمود اللحن الشهير "أمانة عليك"، فقد لجأ كارم إلى محمد عفيفي لمساعدته في وضع اللحن الذي كان من أسباب شهرته دون مقابل. 

محمد عفيفي أستاذا لكمال الطويل
أما الملحن كمال الطويل فقد ذكر الشيخ زكريا أحمد عنه في مذكراته أنه استقبله ذات يوم ليتعرف على موهبته الفنية فنصحه بتعلم الموسيقى والعزف على العود كي يكون له مكان بين الملحنين الأقدار، وأرشده إلى محمد عفيفي. وقد تعلم كمال الطويل على يد محمد عفيفى في معهد الموسيقى العربية ، في الموسيقى النظرية والمقامات كما في آلة العود. ويشير بيان تقديرات الطلاب بالمعهد إلى اسم "كمال الطويل" حاصلا على تقدير "جيد" بتوقيع الأستاذ محمد عفيفي. ثم احترف كمال الفن بعد ذلك وأصبح من أفضل الملحنين المصريين بل وضع موسيقى النشيد الوطني المصري في فترة هامة من تاريخ مصر، وهو نشيد "والله زمان يا سلاحي" الذي غنته أم كلثوم.

الشيخ زكريا يتأثر بلحن لمحمد عفيفي في "الورد جميل"لأم كلثوم
أما الشيخ زكريا فقد كان صديقا لمحمد عفيفى وكان يزوره باستمرار فى الإسكندرية، وقد تأثر الفنانان بأحدهما الآخر فكان محمد عفيفى يعجب كثير بألحان زكريا وخاصة " قفلاته" اللحنية والتي لم يكن يستطيع أداءها إلا فنان متمكن، وكذلك تمسكه بالخط الشرقي والشعبي الأصيل. ومن أحد ألحان محمد عفيفي التي تأثر بها زكريا أحمد اللحن الأساسي فى أغنية "إنت جيت" التي كان قد أعدها لأم كلثوم وأسمعها لزكريا قبل أن يقدمها إليها، وظهر ذلك اللحن بعد ذلك فى الأغنية الشهيرة " الورد جميل"!
وقد اقترب محمد عفيفى من الشيخ زكريا كثيرا حتى أنه قد حفظ عنه بعض ألحانه التى لم تقدم جماهيريا، ومنها لحن "البرنيطة" ولحن "قدر ده وده .. ياما ناس كمالة عدد !" من كلمات بيرم التونسى. وقد اهتم فناننا بتقديم تلك الأعمال بينما كان يحتفي كل عام بذكرى ميلاد زكريا أحمد، وأيضا لتقديره الخاص لبيرم وشعره، واستمر في تقديمها للجمهور كل عام وتحفيظها للأجيال الجديدة وفاء لصديقه الذي أحبه وأحب فنه.

نعم ، إن محمد عفيفى لم يكن يأبه كثيرا إذا اكتشف أحد ألحانه يؤديها آخر وينسبها لنفسه، ولكن مرجع ذلك كان إلى أن كل الذين أخذوا عنه كان يحبهم ولم يشأ أن يفسد علاقته بهم أي شئ!
ويكفى للاستدلال على ذلك أنه لم يبح بهذا لأحد إلا لأقرب الناس وفى مناسبات محدودة للغاية، وكان يتعجب من يعلم بها من عدم بوح عفيفي بهذه المعلومات لسنوات، وتصيبهم الدهشة لتطابق الألحان عند سماع اللحن الأصلي بكلمات مختلفة، وعند سؤاله لماذا لا يعرف الناس أن هناك فنانين ينقلون منك، يرد قائلا: " ما احبش ازعلهم"..
ولم يكن هذا الموقف أبدا عن ضعف أو قلة حجة ، ومحمد عفيفى له صولات وجولات في ساحات القضاء يرفع الدعاوى على من يختصمه، ويكسبها دائما لأنه كان على حق في كل مرة. 

ألحان محمد عفيفي لفتحية أحمد أمام المحاكم
ومن دعاواه الشهيرة قضية مطربة القطرين فتحية أحمد، فبعد أن طلبت من التلحين لها وكانت هي التى سعت إليه، ولم يكن قد لحن لها غير القصبجي وزكريا والسنباطي، رفضت تسديد ثمن الألحان المتفق عليه. وكاد الفنان الرقيق أن يسكت كعادته لولا أنها عند مطالبته لها عن طريق أحد أصدقاء الطرفين تفوهت بكلمة أثارت غضبه الشديد، فقد قالت "ألا يكفيه أنه لحن لفتحية أحمد؟"! وهنا ثارت كرامة الفنان التي وضعها دائما فوق كل اعتبار، فقرر مقاضاتها على الفور واستمر نظر القضية 15 سنة تغيرت فيها أحوال فتحية ونسيها الناس وفقدت سلطانها وثروتها معا، ولم تعد تستطيع أداء ثمن الألحان. 
ولما أحست باقتراب الحكم في القضية لصالح محمد عفيفى أرسلت له أكثر من رسول يرجونه العفو عنها والتنازل عن حقه لعدم استطاعتها الوفاء به، ولم يأبه الفنان لتوسلاتها وأصر على أن تدفع فتحية الثمن مرتين، مرة بدفع المبلغ نفسه، ومرة بدفعه وهى لا تستطيع. بالفعل حكمت المحكمة لصالحه وهي لا تملك المال الكافي فصدر أمر بالحجز على ما تبقى من ممتلكاتها وبيع لصالح تنفيذ الحكم بأمر المحكمة. وهنا فقط استراح محمد عفيفى وقد ثأر لكرامته. 
وكان بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد قضية مماثلة أمام المحاكم، أيضا بسبب عدم الوفاء بأجر الملحن، واستمرت نحو 13 سنة هي الأخرى ثم انتهت بالتصالح بينهما. 

محمد عفيفي يقاضي وزارة الثقافة
وله أيضا قضية مع وزارة الثقافة التي حجبت عنه مكافآت استحقها عن عمل خمس سنوات متصلة دون أن يصله شيئ. وأحس محمد عفيفي أن الفساد الإداري قد زاد عن حده فقرر مقاضاة الوزارة. ولما شعر المسئولون بحجم القضية، خاصة عندما تسرب الموضوع للصحف، أرسلوا إليه أكثر من عرض للتسوية، لكنه لم يرضخ للمساومات. ورغم أن المبلغ المستحق لم يكن يمثل ثروة لكن أبعاد القضية الأدبية كانت كافية لإزعاج المسئولين أيما إزعاج، ولا سيما أنها كانت "فلوس ميري" ولا يمكن دفعها بسهولة فلا بد من تبرير أو اعتراف بالإهمال. واستمرت المداولات بين الإسكندرية والقاهرة إلى أن جاء موعد جلسة النطق بالحكم بمحكمة الإسكندرية، وإذا بمندوب الوزارة يفاجئ الحاضرين بأن الوزارة قررت دفع المبلغ المطلوب بالكامل قبل النطق بالحكم. وتم دفعه فعلا داخل قاعة المحكمة ونقدا..! وهكذا أفلت المهملون من حكم مشين. 
ورغم ذلك الموقف أرسلت وزارة الثقافة خطابا لمحمد عفيفي بعده بأشهر لتخبره أنه قد تقرر تكريمه في مئوية سيد درويش بالإسكندرية في فئة "الرواد". وبالفعل تسلم درع وزارة الثقافة في تلك المناسبة عام 1990 بحضور قوي من أهل الفن والثقافة في مصر.
لهذه المواقف وغيرها التي تبين تشدد محمد عفيفي في الحق والكرامة لا يمكن بأي حال اعتبار أن تنازله عن بعض ألحانه لغيره، والتي كانت سببا فى شهرتهم وكسبوا من ورائها الكثير، كان بسبب ضعف أو انعدام حجة. فقد كان هؤلاء إما تلامذة له أو أصدقاء أو فنانين أحبهم وأحبوه، وأراد لهم الخير والنجاح ومنحهم ما استطاع عن حب وتقدير. وهو الذي كان يردد إذا ما سأله الناس عن موقفه إذا سرق أحدهم ألحانه " حد يقدر؟"..

وهناك كثيرون في الإسكندرية اكتشف موهبتهم محمد عفيفى وقدمهم للجمهور. ولكن ربما كان أجل خدماته لهم أنه ساعدهم على احتراف الفن "على أصوله"، فأصبح لهم عملا ومورد رزق، وبدلا من أن يرتمي الفنان من هؤلاء في أوساط الملاهي والأفراح كان يدعوهم إلى الدراسة العلمية ونيل شهادات محترمة، فمنهم من أصبح مدرسا للموسيقى ومنهم من عمل بالإذاعة، ومنهم من اتجه للقاهرة وسطع نجمه، ومنهم من سافر للخارج وكون ثروة من عمله بالموسيقى.

وكل هؤلاء يعترفون بالجميل لأستاذهم ويقدرونه حق التقدير، إلا أنه لم يتقاض من أحد ثمن ما أصبح عليه، كان ينظر إليهم كأنهم أولاده .. ومن الذى ينتظر من أولاده شيئا؟ .. وكان يشعر فى قرارة نفسه أنه قد خدم الفن أولا بإضافة محترمة، ثم خدم الناس للإنسانية ليس إلا، وهو في الحالين يؤدي خدماته لوجه الله لا يريد من أحد جزاء أو شكورا... وإنما هي رسالته أن يرقى الناس بفكرهم وفنهم إلى أعلى المراتب في وسط من السهل فيه الانزلاق والضياع. وقد كان هو نفسه قدوة للجميع فلم يعرف عنه لا لهو ولا استهتار، وقد غرس مع فنه حسن الخلق والمثل العليا في قلوب الناس.

20 أبريل 2014

محمد عفيفي ومطربة القطرين فتحية أحمد

ألحان محمد عفيفي لمطربة القطرين فتحية أحمد - تسجيلات الإذاعة

غنـــــــــاء
الإذاعة
الكلمــــات
النوع
اللحــــــن
تاريـــــــخ
فتحية أحمد
القاهرة
محمد الحسينى
أغنية
مصر الحــرة
1952/11
فتحية أحمد
القاهرة
محمد الحسينى
أغنية
على ضي القمر
1952/12
فتحية أحمد
لنــــدن
محمد الحسينى
أغنية
أحب الورد
4 / 1953
فتحية أحمد
القاهرة
محمد الحسينى
أغنية
عهود النيــل
5 / 1953
فتحية أحمد
القاهرة
محمد الحسينى
أغنية
يا ليل يا ليــل
5 / 1953

محمد عفيفي وفتحية أحمد
عام 1952 طلبت المطربة فتحية أحمد من معارفها ترتيب لقاء مع الملحن محمد عفيفي، لكنهم أخبروها بأنه لا يذهب لأحد، وإذا أرادت لقاءه فعليها طرق بابه بنفسها. كانت فتحية قد استمعت إلى ألحان عفيفي لأختها المطربة مفيدة أحمد المقيمة يالإسكندرية، وكانت ثالثة 3 أخوات مطربات هن فتحية ورتيبة ومفيدة. نشأ الثلاثي الطروب في وسط فني بفضل والدهن المطرب والمنشد أحمد الحمزاوي.  
وكانت فتحية أفضلهن صوتا وأداء وخبرة، فقد عاصرت الشيخ سيد درويش وغنت ألحانه في حياته على المسرح. ومن تلك الألحان أشهر أغنياته الحلوة دي، طلعت يا ماحلى نورها، وغيرها، كما غنت من ألحان زكريا أحمد كثيرا ومن أشهر ألحانه لها "يا حلاوة الدنيا" في أوبريت يوم القيامة عام 1946. وفي ذلك الوقت كانت فتحية منافسة قوية لأم كلثوم التي كانت تخشى منافسة فتحية لما عرف عنها من صوت قوي نقي متمكن، وأداء رفيع المستوى خاصة في القصائد. 

في الوقت الذي طلبت فيه فتحية مقابلة محمد عفيفي لم يكن يلحن لها إلا ثلاثة من كبار الملحنين هم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي. لكن حاستها الفنية دلتها على أن ذلك الملحن السكندري الذي نشأ في مدينة سيد درويش والعاشق لألحانه يستطيع أن يقدم لها جديدا يستحق البحث عنه. 
وبالفعل ذهبت مطربة القطرين إلى منزل محمد عفيفي في الإسكندرية، وكان اسم فتحية في ذلك الوقت لا يقل عن اسم أم كلثوم، وطرقت الباب ففتحت لها زوجته السيدة إحسان عبد الرحمن، فسألتها فتحية .. الأستاذ عفيفي موجود؟ فلما أجابتها بالإيجاب طلبت منها أن تخبره أن فتحية أحمد بالباب. استقبلتها الزوجة بكل ترحاب ثم أسرعت تخبر محمد عفيفي بالمفاجأة .. قام عفيفي من مجلسه لمقابلة فتحية مرحبا بها ومثنيا عليها، فأخبرته أنها جاءته للاتفاق على ألحان جديدة لها بعد أن أبدت إعجابها بألحانه لأختها ولغيرها. وبعد جلسة ودية تم الاتفاق بينهما في نفس اليوم. 
حصلت فتحية على 7 ألحان لمحمد عفيفي خلال عامي 1952 و1953 سجلت 5 منها لإذاعتي القاهرة ولندن. 
وبهذا اللقاء فازت فتحية أحمد بالألحان وأصبح محمد عفيفي رابع الملحنين الثلاثة الكبار. 
أحب الورد - غناء فتحية أحمد 
كلمات محمد الحسيني - ألحان محمد عفيفي
محمد عفيفي يتحدث عن فتحية أحمد
لقاء تليفزيوني بالقناة الخامسة المصرية

لكن ذلك الود لم يدم طويلا. فبعد تسجيل تلك الألحان، وبالتالي تقاضت كامل الأجر عنها من الإذاعة، ومقابل لحن "أحب الورد" فقط تقاضت 400 جنيه استرليني من الإذاعة البريطانية BBC تجاهلت فتحية دفع أجر الملحن وتناست الأمر لسنوات. كان الأجر المتفق عليه 100 جنيه لكل لحن، وهو بالطبع مبلغ كبير للغاية بلغة عام 1952 (الجنيه = 4 دولار أمريكي في ذلك الوقت). أرسل إليها عفيفي رسائل مع معارف الطرفين مطالبا بأجره دون جدوى. . 
اندهش عفيفي من هذا الموقف خاصة أنها هي التي سعت إليه ليلحن لها، فقرر مقاضاتها مطالبا بحقه ومثبتا لما تم من اتفاقات وإذاعات، لإرغامها على سداد استحقاقاته. وبالفعل استطاع الحصول على حكم ضدها بالوفاء بالتزاماتها كاملة. 
لكن القضية استغرقت سنوات أمام المحكمة، خفت خلالها نجم فتحية أحمد وتراجع رصيدها في البنك كثيرا، فقضت المحكمة بالحجز على ما تبقى لها من ممتلكات وفاء للدين المستحق. أرسلت فتحية الأصدقاء إلى محمد عفيفي تعتذر وتطلب السماح لأنه لم يعد بإمكانها الوفاء، لكنه لم يأبه بتوسلاتها، وتم تنفيذ الحجز على منزل لها بالإسكندرية لصالحه.
بعد وفاة فتحية بسنوات طويلة تستضيف القناة الخامسة محمد عفيفي في لقاء تليفزيوني ليتحدث عن فتحية أحمد فيشيد بها وبصوتها وقدرتها الهائلة على التعبير ويذكر أنه قد لحن لها 7 ألحان منها لحن "أحب الورد" الذي نشرنا تسجيله في هذا الموقع، ويظهر قدرة فتحية أحمد وإمكانيات صوتها الفريد. وذكر أنه تم تسجيله في إذاعة بي بي سي بانجلترا، كما تحدث عن زوجها أحمد فؤاد علام عازف الكمان الأول في فرقة حسين جنيد التي كانت تعمل بالإسكندرية، وكيف أنه كان يعاونه في تدريب الفرقة على أداء ألحانه لفتحية، وننشر هنا تسجيلا لذلك الحديث الذي تم تقريبا عام 1991

محمد عفيفي - أقوال وآراء

من أقوال وآراء الموسيقار محمد عفيفي
  1. إذا أردت أن تعرف شعبا استمع إلى موسيقاه فالموسيقى وجدان الشعوب
  2. شعب بلا موسيقى، لا يعرف الحضارة
  3. لابد للموسيقي الجيد أن يكون مثقفا، وأن يجيد لغته
  4. الموسيقي الحقيقي يظل هاويا
  5. الموسيقى علاج للنفوس
  6. الموسيقى للفن والتعبير وليست للملاهي الليلية
  7. الموسيقى علم كما هي فن
  8. كرامة الفنان مقدمة على فنه
  9. الفن الهابط يصنعه أناس هابطون
  10. الفن الراقي له جمهور دائما
  11. سيد درويش أسس الموسيقى المصرية الحديثة وخلصها من اللون التركي
  12. أعمال سيد درويش لابد أن تدرس في المعاهد الموسيقية
  13. عبد الوهاب سار على طريق سيد درويش، لكنه أضاف
  14. بيرم كان لا يخشى أحدا ، ولهذا كان شعره صادقا
  15. جميع مقرئينا الجيدين يتبعون المقامات الموسيقية السليمة
  16. الشيخ زكريا كان يخيف الملحنين الآخرين
  17. القصيدة هي محك الملحن
  18. لا توجد مدينة في جمال الإسكندرية
  19. اخلص فى عملك يأتي المال من تلقاء نفسه
  20. اشكر الله على كل شيء

18 أبريل 2014

محمد عفيفي - الجوائز

نال محمد عفيفي وسام الفنون والآداب عام 1970 بالإضافة إلى العديد من الجوائز والأوسمة بلغت أكثر من 50 جائزة من وزارة الثقافة ومحافظة الإسكندرية وجامعة الإسكندرية وجهات أخرى، منها:
· جائزة الرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1968
· وسام الفنون والآداب عام 1970
· تقدير من وزارة الثقافة في مسابقة الموسيقى والغناء عام 1971
· جائزة الفنون والثقافة من وزارة الثقافة ومحافظة الإسكندرية عام 1976
· وسام المركز الأول في التلحين عام 1976
· جائزة الجدارة فى عيد الفن عام 1979 
· جائزة التميز في عيد الفن عام 1980
· وسام المركز الأول في تلحين الأغنية الجماعية عام 1980
· وسام الاتحاد العام للشركات عام 1986
· درع وزارة الثقافة في مئوية سيد درويش عام 1992

ومن أطرف الجوائز التي حصل عليها محمد عفيفي جائزة فورية دون ترشيح أو مسابقة، حين قرر محافظ الإسكندرية الشهير حمدي عاشور منحه الجائزة فور سماعه نشيد في احتفال "بيان 30 مارس"، الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. فوجئ المحافظ بالنشيد وبحماس الجمهور، فما كان منه إلا أن صعد إلى المسرح ليبدي إعجابه وليشكر قائد الفريق ويعلن عن منحه فورا جائزة مالية "مرتب شهري".

محمد عفيفي - النشاط الفني والأعمال

محمد عفيفي - النشاط الفني والأعمال
قدم محمد عفيفي أكثر من ألف لحن في قوالب وأشكال مختلفة، لكنه أضاف إلى ألحانه أنشطة فنية أخرى في أكثر من تخصص، مثل قيادة الفرق والتدوين الموسيقي وإحياء التراث الفني وتدريس الموسيقى، شكلت في مجموعها رحلة فنية نادرة 
1. إنشاء الفرق الموســيقية
· فريق الموســـيقى الشرقية بوزارة الثقافة عام 1951 - 1985
· الفريق الإقليمي للموسيقى بوزارة الثقافة عام 1960 - 1966
· كورال سـيد درويش بقصر ثقافة الحــرية عام 1967 - 1990
· الشعبة الغنائية لفرقة الإسكندرية للفنون الشعبية 1990 - 1996

2. الموسيقى التصويرية
· مسرحية الوصية - إخراج حسن عبد السلام
· مسرحية الفتى حمدان - إخراج حسن عبد السلام

3. الإعداد والتدريب
· ساهم فى إعادة تقديم أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد لسيد درويش وتحفيظ الألحان مع نجله محمد البحر درويش
· تدوين النوت الموسيقية لأوبريت عزيزة ويونس - تأليف بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد 
· خلال السبعينات والثمانينات قدم ندوات وعروضا منتظمة لألحان سيد درويش وزكريا أحمد
· في الثمانينات اختير عضوا بهيئة تحكيم الجامعات وساهم فى إنشاء وتدريب الفرق الجامعية
 
4. أوبريتات إذاعية (7)
· استعراض الزهور - إخراج محمد محمود شعبان
· موكب الزمان - إخراج حافظ عبد الوهاب
· رحلة إلى العجمي - إخراج مدحت مرزوق
· الســوق - إخراج مدحت مرزوق
· بيــاعين الورد
· مصباح علاء الدين - وزارة الثقافة
· العــدوى - إنتاج منظمة الصحة العالمية، ترجم وصور سينمائيا لعرضه في جميع أنحاء العالم

5. ألحان غنائية
· فتحية أحمد، مطربة القطرين: 7 ألحان، ما بين عامي 1952 و1953، لإذاعة القاهرة ومنها لحن لإذاعة لندن 
· صبـــاح: لحن واحد عام 1943
· عبد الحليم حافظ: لحن واحد عام 1950 
· أم كلثــوم: 3 ألحان لكوكب الشرق عام 1943، لم تذع لأسباب خارجة عن الإرادة، وتم تسجيل لحنين منها في برنامج "سهرة مع فنان" بإذاعة الشرق الأوسط عام 1969 مع كبير المذيعين الراحل محمد أنور، وهما "حلفت لي" و "إنت جيت".
· الأناشيد: أكثر من 400 نشيد لجميع المراحل التعليمية والجامعة
· الأغنية: أكثر من 200 لحن للإذاعة والمسرح تنوعت ما بين العاطفي والشعبي والبدوي والديني والوطني، وبدأ نشاطه بالإذاعة منذ افتتاحها عام 1954، ثم انقطع عنها لسنوات طويلة لخلاف مع مديرها حافظ عبد الوهاب، لكنه استأنف نشاطه بعد خروج حافظ عبد الوهاب واستمر حتى توقفت الإذاعة عن الإنتاج الفني عام 1998
· ألحان الأطفال: 25 لحنا مستقلا و8 ألحان لمهرجان ثقافة الطفل عام 1976
· الموشحات: خمسة موشحات من الشعر القديم
· من أشعار بيرم التونسي: خمسة ألحان 

6. الموسيقى البحتة
· مقطوعات موسيقية: حوالي 15 مقطوعة موسيقية سجلت للإذاعة
· تقاسيم نادرة على العود من مقامات مختلفة

7. اكتشاف وتقديم المواهب الفنية
· قدم محمد عفيفي العشرات من الأصوات الجديدة لإذاعة الإسكندرية، ولمع بعضها في القاهرة أيضا، منها كارم محمود، وفايد محمد فايد، وعزت عوض الله وإكرام.


8. برامج تليفزيونية
· سلسلة حلقات فنية بعنوان "أرابيسك" حول التراث الفني المصري والموسيقى العربية، من إعداد وتقديم محمد عفيفي، لتليفزيون الإسكندرية أخرجها محمد السماحي مع افتتاح القناة عام 1990.
· برنامج تسجيلي عن حياة الفنان محمد عفيفي ونشاطه في ثمانين عاما منذ 1913 حتى 1993
· حلقتان تسجيليتان عن حياته وتاريخه الفني في برنامج "من ذاكرة التاريخ" بمناسبة عيد ميلاده التسعين في يناير 2003، تحدث فيهما عن مشوار حياته وذكرياته مع الفن والفنانين، وتحدث عنه من عرفوه عن قرب، أعده بهاء قشطي وأخرجه علي عبد الهادي للقناة الخامسة.

9. إحياء تراث سيد درويش وزكريا أحمد
بالإضافة إلى جهده في إحياء تراث سيد درويش، نادى محمد عفيفي بإحياء تراث الشيخ زكريا أحمد، لما في ألحانه من أصالة شرقية خالصة، وقدم ألحانا للشيخ زكريا لم يعرفها الجمهور كان يحفظها عنه بحكم صداقتهما، وعرضتها فرق الإسكندرية في عروض سنوية في ذكرى الملحن الكبير، وهو التقليد الذي انتقل للقاهرة بعدها بنحو عشر سنوات. واقترن اسم زكريا أحمد في تلك العروض باسم أمير شعراء العامية بيرم التونسي الذي تقارب ذكراه ذكرى زكريا، والذي كانت أشعاره مرآة صادقة لأحوال الحياة ومشاعر الجماهير، أبدع منها الشيخ زكريا ألحانا شرقية أصيلة.

10. الحفاظ على التراث
الحفاظ على التراث الفني كان من أهم ما ميز الفنان محمد عفيفى وخاصة تراث سيد درويش، وكان ينادى دائما بوجوب تدريس فن سيد درويش في المعاهد الموسيقية كأصل من الأصول. وقد أخذ على عاتقه مهمة تحفيظ ذلك التراث للأجيال الجديدة من محبي الفن كي لا ينشأ الشباب دون وعي بجذوره الفنية فينتج فنا ضحلا لا يعبر عن هوية مجتمعه الأصيلة

ومن أبرز ما قدمه محمد عفيفى للفن المصري تدوين النوت الموسيقية لأعمال لم تكن مدونة من قبل، وإنما توارثتها الأجيال سماعيا، ثم برحيل حفظة التراث تعرض كثير منه للانقراض، وكان من أفضل من يجيدون صياغة النوت الموسيقية بفهمه العميق لعلوم الموسيقى الشرقية وروح الألحان، إلى جانب دقته الشديدة في ذلك. وكثير من الموسيقيين يستطيع أن يكتب النوتة إذا سمع اللحن، لكن أخطاء كثيرة تظهر عند تنفيذه بواسطة الموسيقيين، ويمكن أن يتسبب ذلك إما في أداء ركيك أو تشويه اللحن نفسه.

لكن من المعروف عن محمد عفيفي أنه لم يرجع عليه أحد بخطأ في كتابة النوت الموسيقية. وكانت كتابته واضحة سهلة يتمكن الجميع من قراءتها وأداء لحنها بسهولة وتوافق. وقد ساعد تمكنه هذا، بالإضافة إلى أمانته المتميزة في أداء التراث، في إحياء العديد من الأعمال التي لم تأخذ فرصتها في التقديم من قبل، وتوصيل الموروث الفني القيم إلى الجمهور كما أراده مبدعوه دون تحريف.
وباهتمامه بالغناء الجماعي أضاف بعدا جديدا للأداء الفني تمثل في إذكاء روح المجموعة بين المؤدين، وظهر من بينهم من هم أهل للغناء الفردي بعد التدرب جيدا على أصول الأداء السليم.

وفى أواخر الستينات كانت الحركة الفنية في مصر مهتمة بالبحث والتنقيب عن التراث بغرض إحياء التراث الموسيقى المصري. وظهرت فرقة الموسيقى العربية كرائدة في هذا المجال بقيادة عبد الحليم نويرة وطبعت عدة اسطوانات لها لاقت رواجا، بالإضافة إلى نجاح عروضها في قاعة سيد درويش بالقاهرة، وقد بدأ محمد عفيفي في الإسكندرية إنشاء فرقة تابعة لوزارة الثقافة بقصر ثقافة الحرية، مركز الإبداع حاليا، سميت "كورال سيد درويش" ودعم إنشاء الفريق مدير ثقافة الإسكندرية وقتها وهو الأديب والكاتب المسرحي الراحل "محمود دياب".، وكان هو من نادى بتلك الخطوة.
تحير محمود دياب كثيرا، وكان متحمسا بشدة لفن سيد درويش، وعين أكثر من موسيقى لتنفيذ الفكرة. لكن لم يوفق أحد في ذلك ولم يمكث فب المهمة أي منهم أكثر من أشهر أو أسابيع، إلى أن دله أصحاب الخبرة في المدينة على اسم فنان استطاع أن يستمر فى المهمة 25 عاما متواصلة، وأحرز الفريق الذي كونه ودربه المراكز الأولى دائما في مسابقات الجمهورية ، كان ذلك الفنان هو محمد عفيفى

تم اختيار محمد عفيفى بناء على عدة عوامل أهمها أنه جمع تراث سيد درويش ودونه، حيث أنه كان يعتبره أبو الموسيقى المصرية الحديثة، كما اعتبر بيتهوفن أبو الموسيقى الأوربية في عصر النهضة، وكان يعلم كيف تأثر به المبدعون بعده وكيف نهلوا من تراثه دون إشارة إليه، وكان ذلك يحز في نفسه كثيرا، وكثيرا ما كان يقول "سـيد درويش لم يأخذ حقه". وعندما كان يسأل عن تفصيل ذلك كان يقول " موسيقى الشيخ سيد يجب أن تدرس في معاهد الموسيقى.
رحل محمود دياب سريعا، فقد مات في ريعان شبابه وكانت وفاته صدمة للوسط الأدبي، وترك المهمة أمانة في أيدي محمد عفيفى. وكان هناك تخوف من اتجاهات الإدارة الجديدة، ولكن بظهور "محمد غنيم" استقرت الأوضاع واستمر نشاط كورال سيد درويش.

وهناك فرق جوهري بين ما قدمته فرقة الموسيقى العربية فى القاهرة وما قدمه كورال سيد درويش فى الإسكندرية. وقد تفاءل محمد عفيفى خيرا عندما ظهرت فرقة الموسيقى العربية، لكن تفاؤله لم يدم طويلا، فلم تظهر في عروضها إلا قلة من أعمال سيد درويش، وركزت معظم اهتمامها على عصر ما قبل سيد درويش، مثل أدوار محمد عثمان وعبده الحامولي والموشحات الأندلسية.
ولم يكن هذا هدف محمد عفيفي الذي رأى أن هذا النوع من الألحان لا يعبر عن الموسيقى المصرية، فطابعها السائد إما تركي أو أندلسي، وتجلت مصريته فقط في الإمعان في التطريب وليس من باب التعبير الواسع كما في مدرسة سيد درويش. فكان أن أخذ المهمة على عاتقه رغم جميع الصعوبات لإحساسه بمسئولية خاصة تجاه الفن المصري لم يظهر من يقوم بها.

ولم تكن المهمة التي بدأت مع كورال سيد درويش سهلة بأى حال، حتى مع تمكن القائد الجديد. وكمنت أشد الصعوبات على الإطلاق في أن الفريق كان دائم التغير، فلم يكن أفراده يتمتعون بأية ميزات مادية، على عكس فرق القاهرة الممولة جيدا، ولم يكن يستمر منهم طويلا إلا قلة، وكانوا يتبدلون باستمرار لانشغالهم إما بالدراسة أو بالعمل أو بالسفر أو بالزواج، وكان أكثر ما يربطهم بالفريق حبهم الشخصي لقائده وفنه.
وعنى ذلك أنه كان على قائد الفريق أن يدرب أفرادا جددا باستمرار، مع المحافظة في نفس الوقت على قوة الفريق ومستوى أدائه، وأن يكون دائما مستعدا وجاهزا للاشتراك في الاحتفالات والمناسبات العامة والمسابقات أيضا. وإذا كان حجم الفريق في أي فترة حوالي أربعين فردا في المتوسط، فإن هؤلاء الأربعين لم يكونوا هم أنفسهم في أي وقت خلال تلك المدة الطويلة (25 سنة)، ويقدر عدد من اشتركوا في كورال سيد درويش بما يزيد عن الألف مشترك. 
وهكذا ظهرت ميزة أخرى انفرد بها محمد عفيفي وهى الإدارة السليمة لمجموعات من الشباب اختلفت في أشياء كثيرة، لكنها اجتمعت على حب الفن وأسلوبه في التعامل مع الجميع.

محمد عفيفي - سيرة حياته

 
فنـان موسيقى من مواليد الإسكندرية فى 28 مارس عام 1913، نفس الشهر الذي ولد فيه سيد درويش ومحمد عبد الوهاب
حفظ القرآن الكريم فى كتاب الشيخ حسن الغزولي ثم التحق بمدرسة كفر عشري الأولية فالمدرسة القادرية الثانوية
كان عمره 10 سنوات عند وفاة سيد درويش عام 1923
عام 1929 أي ببلوغه سن السادسة عشرة حضر أول حفل لمحمد عبد الوهاب على مسرح زيزنيــا بالإسكندرية، وفى الاستراحة طلب منه الجمهور الغناء، فسمعه محمد عبد الوهاب وطلبه على المسرح وأثنى عليه معجبا بأدائه، ثم طلب منه السفر إلى القاهرة ليعمل معه ضمن الكورس وكان مكونا من إبراهيم عبد الله، محمد عبد المطلب وصالح الفروجي، وعرض عليه راتبا شهريا قدره 15 جنيها شهريا لكنه لم يتمكن من السفر بسبب رفض والده، لكن صلته بعبد الوهاب لم تنقطع حتى وفاة عبد الوهاب.

تعرف على الشيخ "على فيــاض" والشيخ "على الحـارث" والشيخ " أحمد خليل" وحفظ منهم الموشحات والأدوار القديمة ( ما قبل ظهور سيد درويش )، ثم استمع إلى ألحان سيد درويش فاكتشف انقلابا في الموسيقى والتعبير، ثم حفظها من كورس سيد درويش الذين عاشوا بعد وفاته عام 1923

بدأ دراسته للعود على يد أحد الأرمن المقيمين في الإسكندرية وهو " إسكندر أستوريان" عام 1930
بدأ دراسة المقامات والأوزان الموسيقية على يد ثلاثة من أعظم الموسيقيين في ذلك الوقت وهم "إسكندر شلفون" و"يعقوب نرجس" و "محمد فخري". كما درس النوتة والصولفيج على يد الموسيقى الإيطالي "ماريو" وهو من أسرة معهد فيردي للموسيقى.
  • عام 1932 حضر مؤتمر الموسيقى العربية الشهير والذي عدلت فيه طريقة كتابة النوتة للمقامات الشرقية، وكان أصغر عضو يقدم بحثا عن المقامات واختصار تعددها.
  • مع ظهور محطات الإذاعة الأهلية قدمت أعماله 4 محطات في وقت واحد
  • عام 1938 قدم مستشار الإذاعة الفنان مدحت عاصم للإسكندرية لاختيار فنانين جدد، ووقع اختياره على محمد عفيفي كمطرب، وزميله جورج ميشيل كعازف عود، ثم أذاعت له إذاعة القاهرة أول عمل فني في أغسطس 1938 أي بعد إنشائها بأربع سنوات. ورغم أنه كان قد ترك الغناء كلية واحترف التلحين وتدريس الموسيقى بعد ذلك بسنوات قليلة إلا أن إذاعته قد انتظمت حتى عام 1956
  • عام 1940 حصل على دبلوم الدراسات التثقيفية للموسيقيين المحترفين ومن زملائه خليل المصري، ومحمود الشريف، صديقه الأقرب بالإسكندرية الذي تركها إلى القاهرة
  • عام 1944 عين أستاذا بمعهد الموسيقى العربية للموسيقى الشرقية وآلة العود، ولمدة عشرين عاما حتى عام 1964 وكان من تلامذته في المعهد الملحن كمال الطويل
  • عام 1945 تعرف على الشيخ زكريا أحمد ونشأت بينهما علاقة وطيدة
  • عام 1946 انتدبته وزارة الثقافة كأول أستاذ للموسيقى بأول مركز للجامعة الشعبية عند إنشائها وامتد هذا الانتداب للمراكز الثقافية ثم قصور الثقافة إلى عام 1990
  • عام 1947 تعرف إلى محمد القصبجي وكان يزوره بانتظام
  • عام 1954 أنشئت إذاعة الإسكندرية وبدأ التعامل معها ملحنا، حيث قدم الكثير من الأعمال الموسيقية المتميزة وقدم العديد من نجومها. واستمر تعامله مع الإذاعة حتى وفاته ماعدا فترة انقطاع سببها خلافه مع حافظ عبد الوهاب مدير إذاعة الإسكندرية انتهت بتعيين صابر مصطفى مديرا للإذاعة
  • عام 1967 تولى إنشاء وتدريب فريق كورال سيد درويش بقصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، مركز الإبداع حاليا، الذي قدم تراث سيد درويش للجمهور وشهدت عروضه إقبالا جماهيريا كبيرا، ونال الفريق الجوائز الأولى باستمرار على مستوى الجمهورية، واستمر في تدريبه لمدة 25 عاما حتى 1992
  • عام 1970 حصل على وسام الدولة في الفنون واستمر في نيل الجوائز الفنية عن أعماله اللاحقة، وتم تكريمه في مناسبات عديدة حتى بلغ عدد الجوائز الحاصل عليها 56 جائزة 
  • عام 1987 عاد محمد عفيفي لنشاطه مع إذاعة الإسكندرية 
  • عام 1990 تولى إنشاء الشعبة الغنائية لفرقة الإسكندرية للفنون الشعبية والإشراف عليها خلال فترة التسعينات
  • عام 1990 قدم سلسلة من الحلقات الفنية لتليفزيون الإسكندرية حول التراث الفني المصري والموسيقى العربية بعنوان " أرابيسك"، أخرجها محمد السماحي
  • عام 1993 قدم تليفزيون الإسكندريى برنامجا تسجيليا عن حياة الفنان ونشاطه في ثمانين عاما منذ مولده في 1913 حتى 1993
  • عام 2002 سجل حلقة تليفزيونية تحدث فيها عن رحلته مع الفن 
  • فى يناير 2003 قدم تليفزيون الإسكندرية (القناة الخامسة) حلقتين عن حياة الفنان وتاريخه الفني في برنامج "من ذاكرة التاريخ" بمناسبة عيد ميلاده التسعين، تحدث فيه عن مشوار حياته وذكرياته مع الفن والفنانين، وتحدث عنه من عرفوه عن قرب، أعده بهاء قشطي وأخرجه علي عبد الهادي

حقق الفنان محمد عفيفى هذا السجل الحافل من الأنشطة والأعمال الفنية بالإضافة إلى انشغاله بمهام وظيفته كموظف مدني بالقوات المسلحة المصرية، وأتم مدة خدمته كاملة حيث كان مديرا للمراجعة والمهمات بالمنطقة العسكرية الشمالية بالإسكندرية حتى عام 1973. وقام أثناء خدمته باستلام أول دبابة تصل إلى الجيش المصري، وقدم العديد من الحفلات التي كان يقيمها الجيش فى معسكر المنطقة الشمالية

الموسيقار محمد عفيفي

في هذا الموقع الذي يحمل اسم الفنان الموسيقار محمد عفيفي سنحاول مواصلة تقديم رسالته في الفن والموسيقى بنفس الروح ومن أجل نفس الأهداف التي كان يتبناها ويسعى من أجلها الموسيقار الكبير. لم يحظ محمد عفيفي بشهرة كبيرة في عالم الأضواء بسبب تفضيله الإقامة في مدينته التي أحبها، الإسكندرية، ولم ينتقل إلى مدينة الأضواء، القاهرة، مثلما فعل غيره من الفنانين الموسيقيين الكبار من أبناء المدينة، الذين جابت شهرتهم الآفاق مثل سلامة حجازي، سيد درويش، كامل الخلعي، ومحمود الشريف.
لكنه مع ذلك استمر في عطائه الفني، تقريبا دون مقابل، طوال حياته، وأضاف إلى إنتاجه الموسيقي عنصرين لا يقلان أهمية عما صنعه من موسيقى، وهما الحفاظ على التراث الفني الأصيل للموسيقيين الكبار، وعلى رأسهم سيد درويش، ونشر الثقافة الموسيقية بوجه عام كأحد أوجه الثقافة الراقية والذوق الرفيع. 
بلغ من تعمق محمد عفيفي في علوم الموسيقى الشرقية أنه أصبح المرجع الأول في مصر في كل ما يتعلق بالتراث الموسيقي، النظريات والمقامات والأوزان، التدوين الموسيقي، أصول التلحين، قواعد الأداء، تقييم وتدريب الأصوات، تعليم الموسيقى، وغير ذلك من المجالات. بالإضافة إلى ذلك الكم الهائل الذي حمله في ذاكرته من التراث القديم بداية من الموشحات إلى المتوارث من الفن الشعبي حتى ما كان يتردد منه على ألسنة الباعة. 
حاز محمد عفيفي جوائز عديدة بلغت أكثر من خمسين جائزة، وقدمت له جميعها في الإسكندرية حيث تركز نشاطه، ومن اللافت أن الشخصيات التي قدمت إليه تلك الجوائز هي التي كانت تنتقل من القاهرة إلى الإسكندرية للقائه في مناسبات مختلفة لتكريمه والإعراب عن تقديرها له. 
لقب محمد عفيفي بشيخ الموسيقيين والملحنين، كما لقب بسادس الخمسة الكبار، سيد درويش ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، وكانت تربطه صداقات فنية مع عبد الوهاب وزكريا والقصبجي. فقد التقى بعبد الوهاب مبكرا في حياته، وكان زكريا ينزل ضيفا عليه في منزله بالإسكندرية كلما زار المدينة، وكان يحمل تقديرا خاصا للقصبجي باعتباره فنانا سابقا لعصره. 
عمل محمد عفيفي أستاذا للموسيقى الشرقية وآلة العود بمعهد الموسيقى العربية، وكان من تلامذته الملحن كمال الطويل، كما أنشأ فريق كورال سيد درويش الذي نشط لنحو ربع قرن في تقديم تراث الفنان الخالد. ومحمد عفيفي هو الذي أنشأ تقليد الاحتفاء بذكرى زكريا أحمد وبيرم التونسي كل عام على مسارح الإسكندرية، ومن ثم انتقل التقليد إلى القاهرة. 
ولد الفنان محمد عفيفي في 28 مارس عام 1913، وكان عمره عشر سنوات عند رحيل سيد درويش، وأعجب في بداية مشواره الفني بألحان عبد الوهاب، لكنه يقول "أعجبت كغيري بألحان عبد الوهاب، لكني عندما استمعت إلى ألحان سيد درويش أدركت أنني أستمع إلى الأصل". 
في الصفحات القادمة سنتعرف أكثر وعن قرب إلى فنان الإسكندرية الذي كان معلما لأجيال. ولم يكن الفن هو الرابط الوحيد بين ذلك الفنان وزملائه أو تلاميذه، كانت هناك أيضا مبادئ ومواقف وآراء، تضيف بعدا إنسانيا لسيرة الرجل الذي يذكره الجميع بالخير. سنتتبع هنا معا رحلته الطويلة مع الفن وما فيها من فنون ورؤى، وقصص وأسرار
ربما تأخر إنشاء هذا الموقع لسنوات، لكن الأمل تجدد في إحياء ذكرى الفنان محمد عفيفي بعد أن نشطت الإسكندرية في تذكر أبنائها، وشهدت أول أمسية فنية في ذكرى ميلاد موسيقارها هذا العام، ونأمل أن يستمر التقليد سنويا ليس فقط للتذكر والتكريم، وتقديم القدوة الحسنة والمثل الأعلى للأجيال الجديدة، بل لإحياء أيضا روح الفن الأصيل الذي كاد أن يندثر