22 أبريل 2014

محمد عفيفي - روح العطاء وأحكام القضاء

يعتبر كثير من أبناء الإسكندرية الفنان محمد عفيفى والدا لهم بجانب كونه أستاذا. فقد اجتذب بشخصيته الهادئة وابتسامته الجذابة وتمكنه الفائق من فنه وإخلاصه له أناسا من جميع الأعمار والفئات، منهم من كان حريصا على الاستماع إليه في ندواته وبروفاته دون الاشتراك الفعلي فى أى نشاط حبا في الالتفاف حوله والاستمتاع بما يقول، وكان حكاياته عن الفن وأهل الفن لا تنتهي، ومنهم من احترف الموسيقى وأصبحت له عملا مستقلا، ومنهم من لمع واشتهر.

ألحان لمحمد عفيفي نسبها آخرون لأنفسهم
وليس هناك فنان من الإسكندرية لا يعرف محمد عفيفى، فقد عرفه جميعهم الكبار منهم والصغار، ومن أعماله أنه قدم أكثر من أربعمائة لحن ونشيد لمدارس الإسكندرية تعزف في المناسبات المختلفة. وظل محمد عفيفي رجعا للكثيرين عند اضطلاعهم بالقيام بأعمالهم الخاصة. وكان له الفضل في نجاح فنانين بإشرافه على أعمال بعينها كانت سببا في شهرتهم، على سبيل المثـال أغنية "يا زايد في الحلاوة" التي ذاع صيتها في الإسكندرية كثيرا لجمال لحنها الذي ظهر فيه الطرب الأصيل من غناء عزت عوض الله، فقد وضع لحنها الأساسي محمد عفيفي، واستأذنه عزت عوض الله بحكم صداقتهما في أن يضع كلمات أخرى على اللحن، فوافقه عفيفي من باب المساعدة والمساندة، لكن عوض الله نسب اللحن لنفسه بحجة إدخال بعض التغييرات. وكذلك كان الحال في لحن "نوارة حارتنا". ومن الألحان المعروفة للمطرب كارم محمود اللحن الشهير "أمانة عليك"، فقد لجأ كارم إلى محمد عفيفي لمساعدته في وضع اللحن الذي كان من أسباب شهرته دون مقابل. 

محمد عفيفي أستاذا لكمال الطويل
أما الملحن كمال الطويل فقد ذكر الشيخ زكريا أحمد عنه في مذكراته أنه استقبله ذات يوم ليتعرف على موهبته الفنية فنصحه بتعلم الموسيقى والعزف على العود كي يكون له مكان بين الملحنين الأقدار، وأرشده إلى محمد عفيفي. وقد تعلم كمال الطويل على يد محمد عفيفى في معهد الموسيقى العربية ، في الموسيقى النظرية والمقامات كما في آلة العود. ويشير بيان تقديرات الطلاب بالمعهد إلى اسم "كمال الطويل" حاصلا على تقدير "جيد" بتوقيع الأستاذ محمد عفيفي. ثم احترف كمال الفن بعد ذلك وأصبح من أفضل الملحنين المصريين بل وضع موسيقى النشيد الوطني المصري في فترة هامة من تاريخ مصر، وهو نشيد "والله زمان يا سلاحي" الذي غنته أم كلثوم.

الشيخ زكريا يتأثر بلحن لمحمد عفيفي في "الورد جميل"لأم كلثوم
أما الشيخ زكريا فقد كان صديقا لمحمد عفيفى وكان يزوره باستمرار فى الإسكندرية، وقد تأثر الفنانان بأحدهما الآخر فكان محمد عفيفى يعجب كثير بألحان زكريا وخاصة " قفلاته" اللحنية والتي لم يكن يستطيع أداءها إلا فنان متمكن، وكذلك تمسكه بالخط الشرقي والشعبي الأصيل. ومن أحد ألحان محمد عفيفي التي تأثر بها زكريا أحمد اللحن الأساسي فى أغنية "إنت جيت" التي كان قد أعدها لأم كلثوم وأسمعها لزكريا قبل أن يقدمها إليها، وظهر ذلك اللحن بعد ذلك فى الأغنية الشهيرة " الورد جميل"!
وقد اقترب محمد عفيفى من الشيخ زكريا كثيرا حتى أنه قد حفظ عنه بعض ألحانه التى لم تقدم جماهيريا، ومنها لحن "البرنيطة" ولحن "قدر ده وده .. ياما ناس كمالة عدد !" من كلمات بيرم التونسى. وقد اهتم فناننا بتقديم تلك الأعمال بينما كان يحتفي كل عام بذكرى ميلاد زكريا أحمد، وأيضا لتقديره الخاص لبيرم وشعره، واستمر في تقديمها للجمهور كل عام وتحفيظها للأجيال الجديدة وفاء لصديقه الذي أحبه وأحب فنه.

نعم ، إن محمد عفيفى لم يكن يأبه كثيرا إذا اكتشف أحد ألحانه يؤديها آخر وينسبها لنفسه، ولكن مرجع ذلك كان إلى أن كل الذين أخذوا عنه كان يحبهم ولم يشأ أن يفسد علاقته بهم أي شئ!
ويكفى للاستدلال على ذلك أنه لم يبح بهذا لأحد إلا لأقرب الناس وفى مناسبات محدودة للغاية، وكان يتعجب من يعلم بها من عدم بوح عفيفي بهذه المعلومات لسنوات، وتصيبهم الدهشة لتطابق الألحان عند سماع اللحن الأصلي بكلمات مختلفة، وعند سؤاله لماذا لا يعرف الناس أن هناك فنانين ينقلون منك، يرد قائلا: " ما احبش ازعلهم"..
ولم يكن هذا الموقف أبدا عن ضعف أو قلة حجة ، ومحمد عفيفى له صولات وجولات في ساحات القضاء يرفع الدعاوى على من يختصمه، ويكسبها دائما لأنه كان على حق في كل مرة. 

ألحان محمد عفيفي لفتحية أحمد أمام المحاكم
ومن دعاواه الشهيرة قضية مطربة القطرين فتحية أحمد، فبعد أن طلبت من التلحين لها وكانت هي التى سعت إليه، ولم يكن قد لحن لها غير القصبجي وزكريا والسنباطي، رفضت تسديد ثمن الألحان المتفق عليه. وكاد الفنان الرقيق أن يسكت كعادته لولا أنها عند مطالبته لها عن طريق أحد أصدقاء الطرفين تفوهت بكلمة أثارت غضبه الشديد، فقد قالت "ألا يكفيه أنه لحن لفتحية أحمد؟"! وهنا ثارت كرامة الفنان التي وضعها دائما فوق كل اعتبار، فقرر مقاضاتها على الفور واستمر نظر القضية 15 سنة تغيرت فيها أحوال فتحية ونسيها الناس وفقدت سلطانها وثروتها معا، ولم تعد تستطيع أداء ثمن الألحان. 
ولما أحست باقتراب الحكم في القضية لصالح محمد عفيفى أرسلت له أكثر من رسول يرجونه العفو عنها والتنازل عن حقه لعدم استطاعتها الوفاء به، ولم يأبه الفنان لتوسلاتها وأصر على أن تدفع فتحية الثمن مرتين، مرة بدفع المبلغ نفسه، ومرة بدفعه وهى لا تستطيع. بالفعل حكمت المحكمة لصالحه وهي لا تملك المال الكافي فصدر أمر بالحجز على ما تبقى من ممتلكاتها وبيع لصالح تنفيذ الحكم بأمر المحكمة. وهنا فقط استراح محمد عفيفى وقد ثأر لكرامته. 
وكان بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد قضية مماثلة أمام المحاكم، أيضا بسبب عدم الوفاء بأجر الملحن، واستمرت نحو 13 سنة هي الأخرى ثم انتهت بالتصالح بينهما. 

محمد عفيفي يقاضي وزارة الثقافة
وله أيضا قضية مع وزارة الثقافة التي حجبت عنه مكافآت استحقها عن عمل خمس سنوات متصلة دون أن يصله شيئ. وأحس محمد عفيفي أن الفساد الإداري قد زاد عن حده فقرر مقاضاة الوزارة. ولما شعر المسئولون بحجم القضية، خاصة عندما تسرب الموضوع للصحف، أرسلوا إليه أكثر من عرض للتسوية، لكنه لم يرضخ للمساومات. ورغم أن المبلغ المستحق لم يكن يمثل ثروة لكن أبعاد القضية الأدبية كانت كافية لإزعاج المسئولين أيما إزعاج، ولا سيما أنها كانت "فلوس ميري" ولا يمكن دفعها بسهولة فلا بد من تبرير أو اعتراف بالإهمال. واستمرت المداولات بين الإسكندرية والقاهرة إلى أن جاء موعد جلسة النطق بالحكم بمحكمة الإسكندرية، وإذا بمندوب الوزارة يفاجئ الحاضرين بأن الوزارة قررت دفع المبلغ المطلوب بالكامل قبل النطق بالحكم. وتم دفعه فعلا داخل قاعة المحكمة ونقدا..! وهكذا أفلت المهملون من حكم مشين. 
ورغم ذلك الموقف أرسلت وزارة الثقافة خطابا لمحمد عفيفي بعده بأشهر لتخبره أنه قد تقرر تكريمه في مئوية سيد درويش بالإسكندرية في فئة "الرواد". وبالفعل تسلم درع وزارة الثقافة في تلك المناسبة عام 1990 بحضور قوي من أهل الفن والثقافة في مصر.
لهذه المواقف وغيرها التي تبين تشدد محمد عفيفي في الحق والكرامة لا يمكن بأي حال اعتبار أن تنازله عن بعض ألحانه لغيره، والتي كانت سببا فى شهرتهم وكسبوا من ورائها الكثير، كان بسبب ضعف أو انعدام حجة. فقد كان هؤلاء إما تلامذة له أو أصدقاء أو فنانين أحبهم وأحبوه، وأراد لهم الخير والنجاح ومنحهم ما استطاع عن حب وتقدير. وهو الذي كان يردد إذا ما سأله الناس عن موقفه إذا سرق أحدهم ألحانه " حد يقدر؟"..

وهناك كثيرون في الإسكندرية اكتشف موهبتهم محمد عفيفى وقدمهم للجمهور. ولكن ربما كان أجل خدماته لهم أنه ساعدهم على احتراف الفن "على أصوله"، فأصبح لهم عملا ومورد رزق، وبدلا من أن يرتمي الفنان من هؤلاء في أوساط الملاهي والأفراح كان يدعوهم إلى الدراسة العلمية ونيل شهادات محترمة، فمنهم من أصبح مدرسا للموسيقى ومنهم من عمل بالإذاعة، ومنهم من اتجه للقاهرة وسطع نجمه، ومنهم من سافر للخارج وكون ثروة من عمله بالموسيقى.

وكل هؤلاء يعترفون بالجميل لأستاذهم ويقدرونه حق التقدير، إلا أنه لم يتقاض من أحد ثمن ما أصبح عليه، كان ينظر إليهم كأنهم أولاده .. ومن الذى ينتظر من أولاده شيئا؟ .. وكان يشعر فى قرارة نفسه أنه قد خدم الفن أولا بإضافة محترمة، ثم خدم الناس للإنسانية ليس إلا، وهو في الحالين يؤدي خدماته لوجه الله لا يريد من أحد جزاء أو شكورا... وإنما هي رسالته أن يرقى الناس بفكرهم وفنهم إلى أعلى المراتب في وسط من السهل فيه الانزلاق والضياع. وقد كان هو نفسه قدوة للجميع فلم يعرف عنه لا لهو ولا استهتار، وقد غرس مع فنه حسن الخلق والمثل العليا في قلوب الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق