13 أكتوبر 2018

وداعا أسامة رؤوف .. النجومية الحائرة بين الإسكندرية والقاهرة

أسامة رؤوف 1938 - 2018  
رحل عن عالمنا الفنان السكندري المطرب أسامة رؤوف بعد رحلة طويلة في عالم الفن والطرب بدأت منذ خمسينات القرن العشرين. تمتع أسامة بصوت جميل وأداء معبر بالإضافة إلى شخصية رقيقة جذبت إليه كل من تعامل معه. بالإضافة للغناء كان عازفا للعود مما مكنه من عزف أغانيه بنفسه وسهل ذلك من مهمة الملحنين بالتقاطه الألحان بسرعة خاطفة 

نجومية لم تكتمل 
قدم الفنان الراحل عشرات الأغاني للإذاعة والتليفزيون اشتهرت منها خاصة "أرض الفيروز" من ألحان محمد الموجي. وفي السينما اشترك بأغنية "شيء غريب شيء عجيب" في فيلم "منتهى الفرح" من ألحان محمد الموجي عام 1963 مع باقة من نجوم الغناء على رأسهم محمد عبد الوهاب الذي غنى "هان الود" في نفس الفيلم، بالإضافة إلى شادية وصباح وفايزة أحمد ومها صبري وفريد الأطرش

لا يعرف أحد على وجه التحديد لماذا تقوقع أسامة رؤوف في الإسكندرية بعدما أتيحت له عدة فرص لنجومية كبيرة في القاهرة لكنه، كما ألمح لي، لم يشا ترك عمله بالإسكندرية وكانت هناك عقبات اجتماعية حالت دون نقل نشاطه للقاهرة بصفة دائمة. 
وهذه الأسباب ليست قاصرة عليه في الواقع وإنما اشترك فيها كل فناني الإسكندرية تقريبا، وقليلون فقط غامروا بترك مدينتهم وأعمالهم وضحوا باستقرارهم الاجتماعي في طريق الفن، فنحن نعرف هذا عن كبار الموسيقيين مثل جلال حرب ومحمد عفيفي وفتحي جنيد وغيرهم كثيرون لم تسمح ظروفهم بالمغامرة، ولم يفلت من هذه القيود غير سيد درويش وسلامة حجازي وكامل الخلعي ومحمود الشريف ورغم ثراء المدينة الفني ظلت القاهرة هي موطن صناعة الفن ومصدر أضوائه 
لم يعتزل أسامة رؤوف الغناء عندما توقفت إذاعة الإسكندرية عن الإنتاج الفني في أواخر التسعينات وظل يقدم فنه في الحفلات العامة في الألفية الثالثة. 

أول لقاء 
لكن لقائي مع أسامة رؤوف بدأ قبل ذلك بكثير حين استمعت له لأول مرة في إحدى الحفلات، كان هو وقتها مطربا معروفا وكنت طفلا صغيرا، لكني أعجبت بغنائه وشهدت إعجاب الجمهور به. لم يخطر ببالي وقتها بأنه سيغني يوما من ألحاني، مر اللقاء مرور الكرام وطوته السنون مع الصفحات القديمة إلى أن عدت إلى مصر بعد سفر طويل وقررت العودة إلى الفن من باب الإذاعة.

نقطة ع الهامش 
قدمت أول لحن لي بالإذاعة عام 1990 فرشح مدير الموسيقى والغناء، الأستاذ مختار أبو السعد، أسامة رؤوف لغنائه وسررت جدا بهذا الترشيح، فكان أسامة أفضل صوت في الإسكندرية على الإطلاق وامتدت نجوميته للقاهرة، ومن ناحية أخرى حقق لي حلما لم أحلم به، أن يغني من ألحاني ذلك الفنان الذي كان نجما بينما كنت أتعلم كيف أمسك بالكمان. أما اللحن فكان لأغنية يصور فيها المؤلف حمدي حامد حبه للإسكندرية قائلا "وكل الدنيا من بعدك .. مجرد نقطة ع الهامش"، وبدأت بروفاته مع أسامة في منزله بالإسكندرية. 
مواقف حرجة 
مر هذا اللحن بظروف صعبة أثناء التنفيذ تسببت في عدة مواقف حرجة
الأول كان مع قائد الفرقة الموسيقية، الموسيقار شريف الأبيض، فقد أضفت بعض الآلات النحاسية للفرقة التي كانت تتألف من "تخت" بسيط، وكنت أخشى أن يتسبب ضعف الفرقة في إضعاف اللحن. 
ولكن حدثت مفاجأة قبل التسجيل حين اعترض قائد الفرقة على إدخال الآلات النحاسية إلى الاستوديو قائلا إن هذه الآلات لن يتحملها الاستوديو وأنها "ستزلزل الجدران" .. لم أشأ إحراجه بالإعلان عن مخاوفي من أن الفرقة لن تستطيع أداء النوتة المكتوبة، وشعوري مقدما بأن أي لحن سوف يعاني مما عانت منه عشرات ومئات الألحان طالما سيقدم بنفس الأداء. 
استمر هذا الموقف المتوتر لبضع دقائق إلى أن حضر مهندس الصوت ليقول "لا ضرر من إدخال الآلات النحاسية" فمضى كل شيء كما خطط له. كان أسامة رؤوف موجودا معنا لكنه فضل عدم التدخل مطلقا وانتظر حتى تم التوصل إلى اتفاق.

الموقف الثاني بعد أن تم التسجيل ونسينا ما حدث، جاء مهندس الصوت ليدعونا للاستماع إلى التسجيل .. فوجئت بأن أداء الآلات النحاسية في استهلال اللحن كان سيئا للغاية. اكتشف المهندس عدم رضائي فعرض عليّ إعادة التسجيل لكني شعرت بأنه لا فائدة من ذلك فالخطأ كان في كيفية العزف، ولأني أيضا لم أشأ إحراج العازف طلبت من المهندس حذف الاستهلال كلية وبدء اللحن من لحظة دخول الإيقاع، فأجابني لطلبي وانتهى الأمر.

أما المفاجأة الثالثة فكانت مع مطربنا أسامة رؤوف .. سمعت من الجميع كلمات مثل "جميل .. تمام .. أوكي" لكن قائد الفرقة والعازفين لاحظوا أني لم أكن راضيا. كنت أطمع في أداء أفضل فطلبت إعادة التسجيل. فلما سألني القائد عن ملاحظاتي قلت له كذا وكذا فقال .. "أنا أعرف أسامة أكثر منك .. إن أعاد اللحن فسيؤديه بنفس الطريقة، هذه هي طريقته في الغناء"، فاحترمت خبرته، خاصة وقد أكد لي أعضاء الفرقة نفس الكلام، وبلغ بي الحرج أشده .. فهذه المرة مع المطرب، والإعادة ليس فيها أي إحراج لكن إذا لم أقبل بنتيجة الإعادة سيكون عليّ تغيير المطرب وهو ليس أي مطرب .. إنه مطرب معروف وغنى لملحنين أكبر مني بكثير، وهو أفضل من لدينا في الإسكندرية .. ولأنه شخص خلوق متواضع شديد الأدب كنت أخشى أن أقسو عليه بتحفظاتي لشعوري بأنه إنسان رقيق شفاف كما لو كان قد خلق من زجاج .. لذلك أخفيت عنه الأمر وخرجت إليه مهنئا وشاكرا مع تمنياتي بأن نجتمع في أعمال أخرى

تعلمت من هذه المواقف الكثير .. أهمها أنه صحيح لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، ولذلك فإن الملحن بصفته قائد العمل يجب أن يتوقع الكثير من المشاكل والعقبات أثناء التنفيذ وعليه أن يتصدى لها بكثير من الصبر والحكمة حتى يصل عمله إلى الناس في أجود صورة "ممكنة"، وهذا أفضل من أن لا يصل مطلقا، وأن الفن الذي يصدر في النهاية عن بشر ذوي إحساس مرهف، وهم قليلون في هذه الحياة المليئة بالنماذج الفجة والسلبية، لا يجب أن يفصلنا عنهم بل على العكس أن يربطنا بهم أكثر فهم مكسب كبير لكل من يقدر الفن والعلاقات الإنسانية 
لقاءات أخرى 
في أوائل التسعينات كان لي شرف حضور البروفات الأولى لأغنيتين من أواخر أعماله للإذاعة هما "جميل يا ليل" و"أنا متفائل" من ألحان الموسيقار الراحل محمد عفيفي التي تمت في منزلي 
كان أسامة يقطع مسافة طويلة حتى يصل إلينا لكنه كان يحب الفن والفنانين ولا يبخل بجهد أو وقت في سبيل توصيل رسالته. وكنت عندما ألتقي به أشعر بأنه ما زال شابا لم تأخد السنوات من وسامته ولا بسمته أو هدوئه رغم المشاكل الاجتماعية المزمنة التي مر بها، على العكس أحس بأنه يضيف إلى إحساسي شيئا أصيلا ومبهجا يبشرني بأن الدنيا مازالت بخير 
في آخر حديث بيننا في 2015 دعوته لتكريمه في أحد الاحتفالات الكبرى لكنه اعتذر لأسباب صحية، ثم رجوته أن يجهز لي جميع أغانيه لأنشرها باسمه على الإنترنت فكان جوابه "للأسف لا أحتفظ بأي تسجيلات" .. فنشرت له الأغنيات الثلاث التي حصلت على تسجيلاتها على يوتيوب من باب التسجيل والتقدير، اثنتان منهما على قناة الأستاذ عفيفي والثالثة على قناتي، وأتمنى أن نرى قناة باسم أسامة رؤوف قريبا لكن على أي حال فإن أعمالا عديدة له موجودة على يوتيوب وإن كانت بصورة متفرقة
أيضا هناك أعمال باسم أحمد أسامة رؤوف، نجل الفنان الراحل، وهو مطرب صاعد يتمتع بصوت رائع وأداء جميل ونتمنى أن يكون امتدادا طبيعيا لفن والده الذي افتقدناه كثيرا وأن ينال حظا أوفر في الفن والحياة 
سيظل أسامة رؤوف رمزا من رموز الزمن الجميل ومن أحب الفنانين إلى قلبي، وستظل ذكرياتي معه جميلة مضيئة مهما مضى الزمن .. رحم الله هذا الفنان الجميل والإنسان الرقيق وأدخله جناته آمين .. 
تحرير أسامة عفيفي 
روابط  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق